آخر تحديث: 25 / 4 / 2024م - 9:08 م

الفنان منير الحجي استحضر لهيب المعركة في بعدها الملحمي

عبد العظيم شلي

استل ريشته بعزم واقدام، مدفوعا بكل طاقة وإيمان، مرتحلا إلى سوح التكوين، عابرا الزمان والمكان، حط رحله عند منتصف القرن الهجري الأول، قاصدا حرارة البيداء، يجوس الكرب والبلاء، متفرسا انفعالات بشر ومآلتهم، وتشريحات مكر مفر، مأخوذا بحراك الأجساد، مدونا صرخات الحق والباطل وزفرات الموت، راصدا تعابير الوجوه، وجوه الصادقين والظلمة، صارخا بالخط واللون ”الظليمة الظليمة لأمة قتلت بنت نبيها“!!

منير الحجي المعتكف منذ نحو ثلاث سنوات نسج تفاصيل فظاعة حرب، وأي حرب، حرب يعاد ذكراها منذ 14 قرنا، لم تزل حية في العقول والضمائر نابضة في القلوب والوجدان، ريشته المحاربة بإتقان وصبر أنجزت لوحة بانورامية تقدر مساحتها 6 × 2 تحكي ملحمة كربلاء الخالدة.

عرف عن الفنان الحجي شغفه الواسع بتوثيق التراث المحلي بجميع أشكاله المادية والحية، فعلى مدى أربعة عقود لم يكف عن استرجاع أمكنة أصبحت أثرا بعد عين، أعادها باحساسه المرهف، عبر مشاهد تراثية ومعمارية وبحرية، سطرتها ريشته بحس واقعي تأثيري ناطقة بالحياة، راحت أعماله تطوف عدة معارض شخصية وثنائية وجماعية ومشاركات رسمية، وتناسلت لوحاته بيعا وهدايا على هيئة نسخ متعددة الأحجام والمقاسات، بوسترات، كتيبات، لوحات مطبوعة كما الأصل، توزعت داخل البلاد وخارج الديار، زينت عدة مجالس وصالات، اعتزازا باشتغالاتها التراثية. منير الحارس الأمين ينتمي إلى قائمة الموثقين لذاكرة القطيف الثرية، متعلق حد النخاع بأرض شهدت مولده وأبصر النور فيها قبل 60 عاما، تربت ذائقته على مواطن الجمال لبيئة تجمع الماءين العذب والأجاج، زاخرة بالخيرات ومن كل الثمرات وما تشتهي الأنفس، فنان من نسل هذه الأرض المعطاء مؤمنا بأن الفن من وحي بيئة الناس والى الناس، كانعكاس المرايا.

الحجي وفيٌ لبيئته، فقد عبر عن ارث مجتمعه الزاخر بالعادات والتقاليد، والطقوس والمعتقدات، فأخضع ريشته للفرح ولأنين الدمع ومرثيات الحزن، فصاغ لوحات دينية تعبر عن واقعة الطف تراوحت بين الرمزية والتقليدية، عرضت بعضا منها داخل أروقة المعارض الحسينية الموزعة بين البلدات والقرى، وأخرى عرضت في ساحات العزاء بمساحة 5 أمتار، مع اجحاف بطمس توقيعه على عمله من قبل القيمين على تلك المواكب وكل من رآها يتسائل من رسم هذه اللوحة التي تشدنا من بعد؟!.

ما الضير أن يرتفع اسم الفنان أُسوة بالخطيب، كل حسب عطاياه هذا بالصوت وذاك باللون وأُناس بالشعر والتمثيل وآخرين بمداد القلم، القريحة مجالها واسع لترجمة الحب الولائي فلا تفضيل لعطاء على آخر باجحاف اسم المتميز، مثلا، نحفظ قصائد دعبل الخزاعي التي مرت عليها مئات السنين ونرددها في مناسبات عديدة ونترحم على من صاغها شعرا ونقول رحم الله دعبل، والنفوس المؤمنة تقصد عديد المآتم وتذكر اسم مؤسيسها، وتفخر بهم لأنهم رهنوا حياتهم خدمة للامام الحسين.

يجب أن نقول للمحسن أحسنت، والمتألق بين الجموع اسباغ ثناء تقدير على جميل ما صنع باستذكار شخصه الكريم.

موقف ذكره الحجي همسا لكاتب السطور وبشي من الاستغراب اللامبالاه وفي نفس الوقت من هذا التصرف غير العادل في حقه، لأن في قرارة نفسه يلتمس من وراء لوحته المثوبة والأجر.

توق كبير يأخذ منير نحو تجسيد واقعة الطف برؤية مختلفة، تترائ له صور عديدة ومتجلية في نفسه منذ عهد الطفولة جرّاء مشاهد ندب النسوة وأنينهن من خلال ”العزية“ التي تحيبها والدته في رحاب منزلهم الكائن في حي الزريب بالقلعة.

حيث يقول: «احساسي الدائم بالتقصير تجاه الامام الحسين، جعلني في بحث دائم، ووعد قطعته على نفسي ترحما لوالديّ يرحمهما الله، والدتي كانت صاحبة مجلس حسيني أسبوعي، أذكر كل يوم أحد، منذ وعيت على الدنيا وصوت الحسين يدوي بين جدران بيتنا القديم في قلعة القطيف على مدار العام، حتى إذا جاء شهر محرم تتشح الجدران بالسواد، فأينما تولي بأحاسيسك تجد الحسين من حولك».

من وصايا أمي أنها تأمرنا حماسا في تشكيل زفّة القاسم، ففي اليوم الثامن تتحول الجدران السوداء إلى ألوان زاهية بالمشامر الملونة.. فيكون لبيتنا رونق عجيب وجاراتنا من النسوة يساعدنها في اعداد الصواني المنتصبة بالشموع المثبتة بالتمر، زغاريد الأحزان تتداخل مع ايقاع المصيبة توترا عند الاقتراب من المقتل، أصوات النحيب تهز قلبي هزّا، ماء الورد يبلل رؤوس النسوة المفجوعة، يتزلزل المكان بالبكاء والأنين، المشهد برمته يسافر بي إلى كربلاء وكأني أُشاهد الواقعة بالصوت والصورة حية أمامي، وتمضي السنين وفي رقبتي دين لعمل لوحة تجسد كل ما تخيلته عن مأساة كربلاء».

رسم الفنان منير عدة لوحات سابقة، وبنظرة تقيمية لأعماله المعبرة عن الوجع الكربلائي لم تكن مقنعة اشتغالا نظرا لما يتمتع به من قدرات فنية، وأظن ثمة نقد وصل اليه وقناعة ذاتية بتحدي النفس واظهار ما يجيش بها من خيالات جمة، طموح قاده نحو تقديم الأفضل بعمل حاشد وحيوي ومتقن، التصور المرئي والمسموع يختاله طوال الوقت.

راح يبحث وينقب في صمت وتؤدة، مستجمعا عديد الصور الفوتوغرافية لتمثيليات حسينية عرضت في المنطقة وثّقها عبر كامرته، فأخذ يقلّب صور التقاطاته المتنوعة التي تجاوزت أكثر من 500 صورة، بالاضافة إلى 1000 لوحة مطبوعة لفنانين عالميين ضمن صور متفرقة من 60 كتاب فني تزخر بها مكتبته التشكيلية، رُكام صور وصور صفها صفا على طول مرسمه واختار المناسب، متأملا أيضا أفلاما سينمائية تجسد لهيب المعارك القديمة، ومسترجعا لوحات تصور واقعة الطف بأبعادها المختلفة من بلاد فارس والعراق. استجمع كل تلك الذخيرة الهائلة لتركيب عنصر هنا وهناك، من طرز اللباس ونوعية العتاد وذخيرة السلاح وهيئة ملامح الرجال وتركيبات الخيول والخيام، ومزجها مزجا عبر تكوين متوازن من جميع الأبعاد.

وبينما الفنان يضع اللمسات الأخيرة لعمله البانورامي قبل يومين وهو يطلعني على الصور المبعثرة والمصادر التي اعتمد وارتكز عليها، قلت له فعلك هذا يذكرني بالفنان الايطالي المبدع ”والتر مولينو“ رسام الحرب العالمية الثانية الذي قيل في حقه ”إننا نستطيع أن نؤرخ لهذه الحرب يوما بيوم من خلال إبداعات والتر مولينو“، ويقول عنه الفنان جمال قطب الذي حضر استديو الفنان في مدينة ميلانو «كان مرسمه عالما مثيرا يموج بالحركة والحيوية.. عشرات من مساعديه وتلامذته منهمكون فيما كلفهم به من دراسات وتخطيطات، يتحرك ’ مولينو’ بينهم في نشاط ابن العشرين، يلقي إليهم بتعاليمه، وارشاداته وملاحظاته، يحيط به وبهم في أبهاء القاعة الفسيحة، عشرات من النماذج والمعدات والأسلحة والأزياء العسكرية، وفي الأركان رأيت أكداسا من الصور الفوتوغرافية والرسوم السريعة، كل ذلك يمثل فوضى فنية محببة إلى نفس الفنان وكأنها إلهام للقرائح الملتهبة المبدعة»، إن كان الفنان الايطالي لديه مساعدوه وطلاب يعاونوه في تجهيز أعماله، منير لوحده في ميدان عمله البانورامي.

أخبرني كيف تحضر لهذا العمل الضخم: «أنجزت لوحة كبيرة قبل ما يقارب العشرين عاما بطول خمسة أمتار، وحين انتهيت منها شرعت في لوحة أصغر لكنها أكثر دقة، حقيقة لم يكن هذا طموحي لدي ما هو أبعد»، ويستكمل ما كان يختلج في ذائقته من رغبة متجددة وعزيمة دافعة: «من الأسباب التي جعلتني أشرع في تنفيذ لوحة كبيرة لموقعة الطف هو حضوري كل عام التمثيليات السنوية لشباب عزاء القديح، فقد ألهمتني بالكثير من الصور الحية وتأثرت بروعة التمثيل العملي وحركات الخيول، وحزن أصحاب الحسين، وقسوة جند عمر بن سعد، كما ألهمتني أشكال الملابس وألوانها لكلا الطرفين وأنواع وأشكال الأسلحة والسيوف والرماح، وفي كل مرة أصطحب كاميرتي ذات «زوووم» قوي، فقد اشتريتها خصيصا لهذه التمثيليات، فتجمعت عندي صور كثيرة، إلى أن قررت رسم لوحة مغايرة عن كل ما رسمت في هذا الموضوع تحديدا، مشاعري وعاطفتي قاداني لفرصة جليلة للظفر بأصطحاب ألواني وفرشاتي لأكون بجوار الحسين وأصحابه، وما أجملها من صحبة، احساس كبير انتابني وهو من أسعد الأوقات وأنا في ضيافة الامام، وبالفعل بدأت بتحضير القماش الخاص بطول ستة أمتار وأسسته بالأبيض وثبت القماشة على الحائط منذ شهر ”محرم 1440“، وجلست أُخطط وأجمع الصور من كل المصادر، كتب فنية، تمثيليات القديح، مسلسلات تاريخية، صناعة الموديلات وغيرها».

استعاد الفنان منير كل ما رأى عبر سلسة صياغات وتكوينات عديدة، من تصورات متتابعة وتخطيطات مترادفة إلى أن استقر عند التكوين النهائي، فانطلق بكل حماس وعزم في عملية اختيار الألوان المناسبة لكل جزئية من اللوحة، بللّتة ألوانه في يد ولسانه يشرح مكابداته في انجاز العمل:

«بعد أن انتهيت من تخطيط الشكل العام بتوزيع الجنود من كلا الجيشين شرعت بالألوان مباشرة وسرعان ما يتغير رأيي بين نظرة ونظرة ضمن المساحة الكبيرة، فكنت أحذف وأضيف عنصر، وأبدل لون بلون، وأغير واستكمل، واستهلكت كمية كبيرة جدا من ألوان الاكريلك، كانت عندي فرشاة ”رقم 2 ملم“، صغير الحجم، هي التي رسمت بها معظم الخيول والرجال، واجهت بعض المتاعب أثناء تنفيذ الرسم في الأماكن المقاربة للأرض، فاضطر للجلوس شبه منحن لفترات طويلة، لأنني أتحرك حسب وضعية اللوحة كونها مثبّتة في الجدار وكبيرة الحجم».

هذا العمل الفني الفذ الذي حوى 140 رجلا بارزا دون مجاميع الشخوص البعيدة، وشمل 90 خيلا وحصانا و10 جمال، كائنات عديدة استطاع الفنان توظيفها باقتدار وتوليفها ضمن رؤية شاملة ومترابطة وكأن المشهد واحد، لا طغيان لعنصر على آخر، ولا تباين بين الأشكال، بعض الهنات البسيطة التي لا تكاد تذكر ضائعة وسط زحمة وتكثيف العناصر، اجمالا التكوين كله منسجم والألوان متفاعلة ومتماهية مع بعضها البعض، فالنظرة الكلية موحدة ومترابطة باتقان، اشتغال آسر يجبر العين على تتبع كل جزء من تفاصيل اللوحة المقسمة على النحو التالي:

يتوزع العمل ضمن ثلات مساحات، نصف دائرة ومثلثان تضمهم أرضية شاسعة تمثل لون الصحراء اللاهبة وهي تغطي ثلاثة ارباع اللوحة وربع للسماء المكفهرة.

المثلث الأول يمينا يشير إلى مخيم الامام الحسين وأنصاره وهو قليل العدد، والمثلث الآخر يسارا جيش عمر بن سعد وأعوانه بمجاميع ضخمة، وبين الجهتين المتقابلتين تدور رحى المعركة في قمة ذروتها وأوج دراميتها، داخل نطاق قوس مؤطرة بنصف دائرة، وهي الكتلة الجاذبة للنظر مباشرة وتمثل ثقل العمل ومركز حيويته، فيها تتكدس حراب الفرسان، وسط صدر اللوحة بمساحة كبيرة، يفصلها فراغين يمينا وشمالا ملقاة فيها مصابين وجثث قتلى من كلا المعسكرين، وثمة خيول بيضاء جهة اليمين تنظر بأسى وحرقة، مفجوعة لما يجري من أهوال ومصائب، وأخرى مطأطأة رقبتها والرأس تتأمل الممددين أرضا من أنصار الامام، حيوان غير عاقل أرحم من جنون طغيان بعض البشر، الفراغين بين الأشكال الثلاثة الرئيسية أعطيا فسحة للتأمل وراحة للنظر، لأن حشد العناصر دون فراغ مدروس يشتت الرؤية، ومن خلالهما - أي الفراغين - أشعرنا الفنان بوهج حرارة الأرض اللاهبة في عز النهار، بتنويعات لونية داكنة في المقدمة وسطوع في الأجزاء الأبعد فالأبعد ادراكا للمنظور الهوائي، مساحة تتناثر عليها أعشاب ودماء وظلال.

اللوحة مستطيلة الشكل تفيض بمجاميع بشرية وتنبض بالحركة والديناميكية، استطاع الفنان أن يوظف كل العناصر في تفاعل مستمر شكلا ولونا، بين قريب وبعيد وبارز ومائل ومتقدم ومضيء ومعتم، وتكمن قمة العمل في سير «اكشن» المعركة، كتل متراصة وخيول ملتحمة وشخوص متداخلة بنسب مدروسة، تشتبك وتتشابك بين معسكري الحق والباطل، نسمع صليل السيوف وصهيل الخيول ونرى طعنات الرماح وانطلاق النبال وشماتة الأعداء، السهام ركائز في الأجساد، صرخات الوطيس تدوي وتدوي في جو بانورامي رهيب يفطر القلب حيث حراك الأيدي فواجع والنزال بين حد السيف وتساقط الشهداء رفعة وعلوا، أرواح تصعد للسماء تلاقي ربها ظافرة بنعيم الجنان.

اللوحة أشبه بشريط سينمائي تفاعلي بين الرؤية المباشرة والفاحصة والمتأملة واستقراء يتوالى في حالة ديمومة لا تعرف السكون.

جموح معركة خالدة بانتصار الدم على السيف، وبانعكاس جموح لوحة بانورامية تستقر في الذاكرة اعجابا وثناء وتقديرا على أنامل كابدت طوال ثلاثة أعوام وتم انجازها في بداية مطلع هذا العام 1443، صدق عمل وصبر واسع وايمان راسخ بقضية ملهمة وعلى جميع الصعد الإنسانية، قيم استلهمها الفنان من سيد الشهداء.

ويفصح لنا عن خلجات نفسه اثناء انكبابه رسما وتعبيرا: «كلما رسمت، كلما عرفت نفسي بأنها لاشئ أمام لوحة يتجسد فيها هذا الحدث الرهيب، عرفت الحسين أكثر واقتربت منه اكثر، كنت أتذوق طعم الحرية متجلية أمامي، كلما أعطيت الحسين كأنما أعطاك معرفة بنفسك وذاتك، تعلمت من الحسين قيم التضحية نحو كل ما هو نبيل وسامي في الحياة».

هكذا أنجز الفنان منير الحجي لوحة كربلائية متفردة تكوينا ولونا وتعبيرا عن كل فنوننا المحلية التي استلهمت واقعة الطف، فألفُ تحية لأنامل وثّقت الملحمة بأجل معانيها.

همسة فنية:

يقول الفنان التايواني المبدع ”يم ماو كون“ صاحب اللوحات السردية والمتأثر بالواقعية الاشتراكية: «يجب على الرسامين العظماء أن يصنعوا روائع، لكي يتذكرها المجتمع والتاريخ، لا يمكنهم فقط صنع لوحات عادية، وبالتأكيد يجب ألا يضيعوا حياتهم كلها في الرسم للمبيعات التجارية».

الفنان منير الحجي ابن القطيف أبدع لوحات تاريخية بامتياز. يا ريشة تجلّت بعنفوان ويا أنامل وهبت خبرتها في تجسيد ملحمة خالدة برؤية فنية معبرة وصادقة ستظل علامة بارزة من علامات الفن القطيفي.