آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 2:22 م

ذكرى مسافر من غير ميعاد

عبد العظيم شلي

يحل اليوم الأربعون على رحيل رفيق الدرب، محمد الحمران رئيس جماعة الفنون التشكيلية بالقطيف سابقا، وبينما كنت أقلب أوراقي المبعثرة وجدت نصا منسيا كنت بصدد إرساله له بالتزامن مع نص وصل إليه من قبل، بعنوان صديقي المسافر إلى خراسان. كان ذلك قبل 6 سنوات تقريبا، ولست أدري كيف تاه مني هذا النص، حينها كان على سفر من مدينة إلى أخرى في بلاد فارس، وكنت أتطلع أن يزور مدينة مميزة، فريدة من نوعها، جمالها آسر، هي سيدة المدن، رجوته أن لا يفوتها طمعا مني ليسلك دروب التاريخ والآثار الباذخة، لحظتئذ دارت بيننا عدة دردشات ورسائل قصيرة عبر الأثير، مؤكدا له بأن يجول في أرض الله الواسعة، فالعمر محطات وحقائب سفر، قائلا له: لا تنسى نصيبك من نصف الدنيا، ففي الأسفار خمس فوائد.

يا رفيق الدرب لماذا استعجلت السفر عنا باكرا وتركتنا على قارعة الحسرات؟ نجر الآهات، كم نشتاق إليك، نشتاق لطلتك لتعليقاتك، لنبرة صوتك، لقفشاتك، لتعليقاتك، للحظات صمتك، لاتصالاتك، لتصبيحاتك، لانفجار ضحكتك المفاجئة، رحيلك كم كان مفاجئا لنا، ولكل أقاربك ومحبيك ومعارفك، كيف لنا أن نفاجئك عن ما هو المستجد من فن وأفكار ورؤية مستقبلية لنادي الفنون وأنت الساعي والحاث ليكون لنا كيان مستقل وصالة نموذجية بكل المقاييس الفنية، كم وددنا أن يطول بك العمر لنترجم معا ما دار بيننا من عديد الجلسات والاجتماعات هنا وهناك لتشاركنا الفرح عما هو آت، لكن أخذك منا هادم اللذات، كم وددنا أن نحقق معك أحلاما وأحلاما لجماعة الفنون التشكيلية بالقطيف، ولكن وألف لكن! آه ما أقسى مرارة الفقد، أربعون يوما على رحيلك يا أعز الأصدقاء، هكذا الأيام تمر، ذكراك لن تمر، فلك في القلب منزلة، اليوم أحبابك، والصحب الجميل نثروا ذكراك عبر كلمات ومرثيات وعبير صور.

نلوذ بالحنين إليك، نطرق باب منزلك لتفتح لنا أبواب قلبك، النابض تفانيا وإخلاصا، نطرق أبواب الذكرى سلوة عن أوجاع الغياب، يا راحلا عنا جسدا طيفك لم يلبث ماثلا أمامنا، وفي هذا اليوم سأتلو سطورا أجددها شوقا إليك، كأنك حاضرا تصيخ السمع، سأعيد النص لذكراك العطرة، عربون محبة صافية للأيام الخوالي.

عزيزي يا أبا قاسم ياقاصدا مدينة نصف الدنيا، حينما تطأ قدماك نصف جهان، توضأ من مياه نهر «‎زاينده رود - نهر الخصب» وارتشف بعضا من قطراته، وتذكر بطولات «شاه عباس الأول» القائد المظفر، وانثر الماء فضاء، تيمنا باحتفالاته من كل عام، حيث يصطف الناس ويرشون ماء النهر وماء الورد على بعضهم البعض، وارفع بصرك وأعبر جسر «خاجو» ذو الطابقين، العلوي بالآجر والسفلي بالحجر، الذي كان يتفجر منه أربعون ينبوع ماء، وتأمل تجاويفه المزخرفة والأقواس والدهاليز والعشرين قنطرة، ثم يمم وجهك المبلل بالفرح واتجه نحو ميدان «نقشي جاهان» وعرج على معالمه الخالدة قصر «علي قابو» المكون من ستة طوابق، الذي يبعث على الإعجاب والخيلاء والزهو، وأدلف إلى مسجد الشيخ لطف الله، والتقط أنفاسك قليلا في القصر الملكي ذي الأربعون عمودا، وارفع عن كاهلك فقر معمارنا الفني، وأشبع حواسك بكل ما تراه في القصر من بذخ جمالي!، وتجول بين الحوانيت المترادفة بالأقواس، والمعبئة بالتحف والهدايا وآيات الفن الرفيع، ودندن مع إيقاع طارقي القدور النحاسية الطاعنون في السن، وتأمل فن «المينياتور» السابح على الأوراق والأواني، ولا تنسى أن تشتري قطع من قماش «القلمكاري» المحمل بالرسوم الفطرية التي تسرد حماسيات وحروب الأئمة المعصومين وخطب وحماسيات زينب الكبرى ، واروي ذائقتك بالفنون التطبيقية الأصيلة المتوارثة من صناعها الحرفيون المهرة القادمون من سهوب فارس وهضاب خراسان وتخوم خوارزم، وتلمس جدران مباني المدينة العتيقة وقصورها الفاخرة، ومساجدها ومدارسها التي غطت شهرتها الآفاق بما حوت من كل علم وفن، فخرجت حفاظ الحديث والأدباء واللغويون الذين حملوا أسمها فخرا وإعتزازا لمنارتها المضيئة بين المدن، أمجاد خالدة فهي بحق درة بلاد فارس، التي تعد فخر الدولة البويهية، مدينة أخذت زخرفها وازينت في عزها الصفوي، المتوج بعصرها الذهبي، وعلى أرضها اعترك التاريخ بدم الكر والفر والنصر المؤزر. أباقاسم هذه المدينة لها أوجه مثل المرايا، تغويك فتنة إلى جنائن فردوسها المعلق شعرا وأدبا وأثرا، مدينة تخاتلك سفرا عبر حكاياتها الأسطورية، خذ من نفحاتها ما استطعت إلى ذلك سبيلا، حيث تتعايش الديانات الثلاث جنبا إلى جنب في وئام وسلام «اليهودية والمسيحية والإسلام»، وأتلو في فؤادك سماحة التعايش، لعلي قومنا يعقلون، وعرج على المساجد والجوامع الأثرية المترامية في عرض البلاد وطولها، وكل واحد سيفضي لك بعديد الحكايا، ولا تنسى نصيبك في التجوال في الحدائق «حديقة الطيور» واسمع تغريدها الآسر، وامكث وقتا في ربوع «حديقة الزهور» حيث سترى الورود أشكال وأنواع تحي النفوس وتبهج الفؤاد، تنشق وخذ نفسا من عبيرها الأخاذ كما العشاق المتجولون في الظلال الوارفة،

وقل ما شاء الله على الوجوه النضرة جل من سواها، تأمل في الربوع، ستجد الماء والخضرة والوجه الحسن ماثلا أمام عينيك واستوحي رسما ما شئت، كما استلهم الشعراء العظام وأدباء وفنانو بلاد فارس من تلك الوجوه النضرة، العابرون ألقا لفراديس الأحلام، سبحوا خيالا وفاضت قرائحهم حرفا ولونا ابداعا على مر العصور. وأخيرا ياابا قاسم قبل أن تودع المدينة سلم سلاما حارا على العبقري الفذ والمبدع العالم الفقيه الشيخ «البهائي» مهندس نصف الدنيا «نقش جهان». إنه عالم حوى العلوم كلها، أن تكتشف هذا العلامة ستكتشف جلال العلم والفكر والفن، فهو من أضاء نجومها تألقا على سائر المدن، فخلدها بصفحات من ذهب، وتذكر بأن «اليونسكو» توجتها كمدينة تراث إنساني. إيه يا اصفهان إنك لا تروي ظمأ العجول أو العابر مرور الكرام، أنت مدينة ليست ككل المدن إنك مدينة العشق والعشاق!، قالوا من يحبك عشقا ستهبيه لذائذ سحرك الأخاذ، وأي سحر فيك يا نصف الدنيا.

تلك كانت رسالة شوق ياغائب عنا، نجدد التحايا لذكراك ، لك منا سلام وألف سلام يا مسافر عنا من غير ميعاد.