آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:00 م

الإصلاح الحسيني

عبد الرزاق الكوي

قال الإمام الحسين .. أما بعد.. فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله ﷺ أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر».

كانت انطلاقة الإسلام وبعثة النبي محمد ﷺ انبثاق عصر جديد في إصلاح واقع متخلف كان يعيشه المجتمع في عصر الجاهلية، عمل الرسول ﷺ جاهدا صابرا محتسبا مع كثير من المعاناة والظلم والأذى في هذا السبيل لم يلن أو يهادن حتى يؤسس مجتمع العدالة والكرامة وحقوق الإنسان المنصوص بها في القرآن الكريم، لقي معارضة شديدة من قبل أصحاب المصالح الخاصة وأن هذا التغيير يهدد مكانتهم وهيمنتهم وينسف واقعهم الفاسد.

أثناء حياة الرسول ﷺ وضع الأسس الثابتة للإصلاح، مجتمع يتمتع بالعدالة والحقوق وحرية الرأي، وبعد انتقاله للرفيق الأعلى مر المجتمع الإسلامي بالكثير من المشاكل والانحراف والتراجع عن جادة الطريق وعدم المحافظة على المكتسبات وقعت انقسامات كثيرة في المجتمع الإسلامي وأحداث مأساوية مما أضعف المجتمع وافترق إلى عدة فرق بحث البعض عن المكاسب الشخصية والأمور الدنيوية والحياة المرفهة ورغد العيش وبرزت تحالفات وولاءات جديدة أثرت على مجمل الحياة الاجتماعية وزاد على ذلك افتعال حروب دموية ذهبت بعشرات الآلاف من الصحابة والتابعين، غاب فيها الضمير وتكالبت الأمور على كل من يريد الإصلاح وأصبح في خطر كل من يقوم بهذا الدور الرباني، أصبحت الأمة أمام مأزقا حقيقيا في بروز قوى كانت تنتظر الفرصة لضرب البنى التحتية للأمة، والرجوع للعصر الجاهلي لهذا برز الإمام علي والأئمة مدافعين عن هذه القيم وكان سيد شباب أهل الجنة الإمام الحسين الامتداد لجده المصطفى ﷺ ولأبيه إمام المتقين أمير المؤمنين بطل الإسلام الخالد الإمام علي بن أبي طالب ، خير من يأخذ بزمام الأمور ويعمل من أجل إصلاح أمة جده ويعمل بالمعروف وينهى عن المنكر، إصلاح من أجل مجتمع ينال فيه الفرد كرامته وعزته التي سلبت منه من قبل القوى التي لا تريد خيرا للدين والإنسان.

على هذا الدرب الشائك سار الإمام الحسين على خطى جده المصطفى ﷺ القائل وهو الصادق الأمين «حسين مني وأنا من حسين»، ينبأ بالدور العظيم لسيد شباب أهل الجنة في العمل على استمرارية المشروع الإصلاحي «الإسلام محمدي الوجود حسيني البقاء».

هذا الدور العظيم والذي خلده التاريخ كأعظم إصلاح في تاريخ البشرية قام بهذا الواجب المقدس من صلحت سريرته وطهر معدنه، فلا يوجد مجتمع هو في غنى عن الدور الإصلاحي وعن وجود قيادات إصلاحية تأخذ على عاتقها حفظ مجتمعاتها من الانحرافات المتعددة.

فذكرى عاشوراء الإمام الحسين أيام حزن ومواساة كذلك مدرسة لأخذ العبر من أجل الاستفادة منها على الواقع المعاش، لم يكن خروج الإمام وهدفه استجلاب الدمعة فقط، قدم ما قدمه من أجل كرامة الإنسانية أن يعطي العالم دروسا في الإصرار على العمل الإصلاحي مهما كلف الأمر من مشاق، ليعلم من جاء بعده أنها مسؤولية شرعية عامة لا يمكن التخلي عنها وترك المجتمعات في متاهات الانحراف.

إحياء الشعائر الحسينية والبكاء نوعا من العمل الإصلاحي للنفس وانعكاس ذلك على المجتمع لما يخلقه الحضور في المراقد الشريفة والمجالس الحسينية من واقع إيماني وتعزيز الارتباط مع الإمام الحسين تعميق الأواصر والارتباط مما يبعث في القلب نورا تتجلى فيه النفس رقيا وصلاحا.

أنست رزيتكم رزايانا التي ** سلفت وهونت الرزايا الآتية

وفجائع الأيام تبقى مدة ** وتزول وهي إلى القيامة باقية

في هذا الجو الإيماني يستمع الفرد إلى السيرة العطرة لسيد الشهداء ويتعرف على مشروعه الإصلاحي في خطبه المباركة ناصحا يقدم الوعظ والإرشاد محذرا مما أصاب وسوف يصيب الأمة في مقبل أيامها إذا سكتت عن القيام بواجبها الشرعي، ورقابتها، ومسؤوليتها عن الحفاظ على المكتسبات التي عمل وجاهد من أجلها الرسول ﷺ، فكان الثمن أخيرا تقديم النفس وأي نفس هي، سيد شباب أهل الجنة قربان عظيم للمحافظة على مبادئ عظيمة تقدم فيها الأرواح فالإمام كامتداد لجده ﷺ كان مؤهلا ومهيئا لهذا الدور الإصلاحي العظيم وقيادة الأمة وتقديم مشروع نهضوي يبقى باسم الإمام مخلدا مدى الدهر.

فهذه الأيام فرصة عظيمة في استلهام قيم الإمام في الإصلاح على المستوى الشخصي والعام واستحضار المبادئ التي انطلقت مع عاشوراء العظيمة، فإذا الإمام الحسين قدم نفسه الطاهرة والعزيزة على الله تعالى وعلى رسوله ماذا سوف يقدم محبي الإمام وأهل البيت من قربان وتقربا إلى روح أمامهم من عمل صالح وفعال في بيئتهم ومجتمعاتهم، خرج الإمام للإصلاح وليجسد الاتباع حضورهم طلب الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وصلت حال الأمة في عصر الإمام إلى طريق الانحدار وتفشي الفساد وانتشار الأحاديث المكذوبة وبروز المنافقين للعلن والمتزلفين وأصحاب المصالح مما شكل خطر على قيم الإسلام وروح الدين أثر على مجمل الحياة الاجتماعية وخطر الرجوع للجاهلية، واليوم تحتاج المجتمعات لهذه الروح من أجل إصلاح ما حل بهذه المجتمعات من انحرافات.

كان مشروعا إصلاحياً ربانيا من أجل مجتمع مسالم تتحقق فيه الحقوق وتمنع فيه الانتهاكات والجرائم وتحارب فيه الفساد، في زمن أصبح التزييف والتحريف واقعا ملموسا، فكان القرار الشهادة، التي خلقت واقع ينير فضاء الإنسانية كشفت فيه الزيف والتضليل والواقع الفاسد في ما ارتكب من جريمة كل العصور.

اليوم والجميع ينادي لبيك يا حسين أن يجسد ذلك يعمل لمواصلة المشروع الإصلاحي، هذا المشروع العظيم مشروع الأنبياء والأئمة عليهم جميعا السلام لا يمكن تحقيقه بلقلقة لسان وبالأماني والأحلام وأن يكون النداء وتلبيته مجرد عادة، بل إرادة وعزيمة وعمل دؤوب ونشاط مستمر واستعداد للتضحية بالوقت والمال والجهد، في واقع عالمي ينادي بالإصلاح بكلمة حق يراد بها باطل يشاهد الجميع العالم كيف يرزح تحت مظلومياته، مات الضمير في زمن الإمام ، ويموت اليوم على النطاق العالمي في ظل التخلي عن الإصلاح الحقيقي من أجل إنقاذ الإنسانية، مما تعانيه من ظلم وفقر ومجاعات وانتهاكات لحقوق الإنسان، فالإمام يقول «أسير بسيرة جدي» والاتباع حين يقولون لبيك يا حسين ان يسيروا بسيرة إمامهم ، مسيرة ليست من أجل شهرة أو مكانة اجتماعية أو وجاهة أو سلطة بل من اجل الصلاح والإصلاح.

كان طريق الحسين جهاد لم يكن مفروش بالورود، بل كان عمل ختامه تمزقت فيه الأجساد وقطعت الرؤوس، ودائما مجال التغيير والإصلاح ليس معبدا سهلا، وفي أيام ذكراه العزيزة على قلوب محبيه واتباعه تتجدد مبادئها في كل عصر وزمان، وجود طليعة في المجتمع تهتم بالإصلاح يعني مجتمع قابل للنهوض والحياة والتقدم والازدهار وتصحيح المسار، فالمصلحون ربان السفينة من قيادة مجتمعاتهم لغدا أفضل، الإصلاحيون من علماء دين وتخصصات اجتماعية وثقافية وشخصيات لها مكانتها في المجتمع كلا يعمل بواجبه الشرعي للإصلاح، أن يضعوا أمامهم أبو الأحرار بما قدم وأعطى قدوة وأنموذج ليصل صوتهم عاليا وليواكب نداءهم لبيك يا حسين مع واقعهم المعاش، فالمجتمع كأي مجتمع يمر بحالات من التردي والتقوقع والانفلات وغيرها من المشاكل الاجتماعية بحاجة ماسة إلى أصحاب الهمم والقلوب المحبة لمجتمعاتهم بالعمل الجاد والمخلص، المجتمع يحتاج استلهام عطاء الإمام ليسد خلته ويسدد زلته ويقوم أوده ويزرع الثقة أن المجتمع وببركة روح الإمام قابل للنهوض والسمو، فالإمام مع أقلية معه في كربلاء صنع معجزة عظيمة تتناقل عبر التاريخ، ومحبيه أولى بهذا العطاء والارتباط والاتباع، كان خط الإمام هو خط جده صلى الله عليه وإله الدعوة للسلام ونبذ الحروب والقتل والتناحر، كان جل اهتمامهم بناء مجتمعات مسالمة، عكس أعداءهم سابقا ولاحقا القتل على الهوية، النهضة الحسينية أوجدت مشروعها السلمي وأخذت بيد الأمة نحو الأفضل لم تبني مشروعه على إرهاب وقتل بل رفض الظلم ومواجهة الانحرافات ونبذ لروح الطائفية والقبلية والمحسوبيات، بهذا الأسلوب الراقي سلبت الشرعية من قوى الظلام وأعداء السلم الاجتماعي فالخلل الذي أصاب الامة كان عظيم احتاج الى عطاء وفداء بعظمة سيد الشهداء، فكسب الجولة واليوم تعيش الإنسانية معاني الاصلاح الحقيقي باتباع نهج الإمام الحسين الإصلاحي.