آخر تحديث: 18 / 4 / 2024م - 1:06 ص

ويبقى العمل

حسين علي آل نمر

قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ «29» لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر: 29-30].

عندما يتحدث الإنسان عن شخصية للتوّ اختارها الله سبحانه إلى جواره، تختلط المشاعر فيما يقول أو يسطّر من حروف، وخاصة إذا كانت الشخصية المفقودة واحداً ممن جسّدوا قيم الدين والأخلاق طيلة حياتهم.

في هذه السطور الرثائية القليلة أستجمع بعض ما سمعت ورأيت وكنت شاهداً عليه لرجل كان مربياً بسلوكه لا بمواعظه وخطبه، ومعلّماً بما خرّجه من ذرية صالحة دون أقلام ودفاتر.

الحاج منصور بن زاهر بن علي الزاهر «أبو علي»

الحاج منصور بن زاهر بن علي الزاهر «أبو علي»ولد الحاج منصور لشخصية وجهائية بعد ثلاث إناث كان أصغرهم سناً، ولكن كبيراً في القدر والاحترام.

وحظي بالاهتمام الكبير من والده، ليس بالدلال فقط بل بزرع القيم والالتزام بالدين، والسعي في خدمة الناس ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، باعتبار أنّ ”حَوَائِجَ النَّاسِ إِلَيْكُمْ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ فَاغْتَنِمُوهَا، فَلَا تَمَلُّوهَا فَتَتَحَوَّلَ نِقَماً“ كما ورد في المأثور عن أمير المؤمنين .

فلا أبالغ عندما أقول ولد وجيهاً، وهذا ما رأيته بنفسي من تقدير واحترام له من أشخاص تصغره وتكبره سناً.

خير سفير

مارس مهنة التجارة برفقة والده في خارج نطاق مسقط رأسه وسكنه الدائم «العوامية»، حيث وجد نفسه تاجراً في مجتمع مختلف من حيث التجانس والتركيب السّكاني، وهذا أكسبه مهارة كبيرة في التعامل؛ لما يمتلكه من ذكاء اجتماعي فأصبح شخصية معروفة ومحبوبة في منطقة «رأس تنورة».

تهيأت له فرص كثيرة للانضمام إلى شركة أرامكو، ولكنّ والده فضّل أن يكون مستقلاً بنفسه ويمتلك قراره بيده.

احتياجه للتعليم قاده لاكتساب هذه المهارة في سنّ الشباب، ومن ذلك اليوم جعل القرآن الكريم رفيقاً لدربه.

انتماؤه لأسرة ثرية ذات تاريخ عريق في بلدة العوامية وضع بين يديه الكثير من الأملاك التي أوقفت لخدمة أهل البيت ، حيث كان أبرزها وقف «الشيبي» المعروف في المنطقة، فالحاج منصور أحد أحفاد أول عمدة للعوامية محمد بن زاهر الذي يملك الكثير من العقارات والبساتين، وهو ابن الوجيه والطبيب الشعبي المعروف زاهر بن علي الزاهر.

لم يعتمد على هذا الإرث وإن كان من حقّه، بل كسب محبّة الجيران والأقارب والأصدقاء والبعيد والقريب بحسن التعامل واللباقة.

ولاء بالعمل لا باللسان

ترك عمله بالتجارة وتفرّغ لخدمة المؤمنين وإحياء ذكر أهل البيت .

فشارك مع والده في الإشراف على الملحمة الحسينية التي كانت تخرج من وقف الشيبي إلى ساحة كربلاء في العوامية التي كان تجذب الموالين حتى من خارج العوامية، بالإضافة إلى محافظته على مجلس يعتبر من بين المجالس الأقدم في المنطقة.

خصّص في منزله الجديد مساحة تقدر بالثلث لعمل حسينية عرفت بحسينية الحاج منصور الزاهر بحي «النصيريات» القريب من ساحة كربلاء بالعوامية.

أذاع الأذان من منزله وكان دقيقاً في مواقيته، حتى بات جيرانه لا تفطر في شهر رمضان إلّا على سماع صوته رغم وجود بعض المساجد القريبة لما يحظى به من ثقة.

طيب معشره عدّد علاقاته في الداخل والخارج، فلم يفرق بين منطقة وأخرى، ومذهب وآخر، وغني وفقير.

سلوك يُغبطُ عليه

أكثر ما يميّز سلوكه الحسن اهتمامه بصلة الرحم الذي يُخْجِل فيها الكبير والصغير، وعندما يسأل عن تقصير البعض تجاهه يردّ: أنا أقوم بما هو واجب عليَّ ولا أنتظر إلّا الأجر والثواب.

كذلك الوفاء لوالديه، فغير الذكر الطيّب لهما وسيره على نهجهما والبرّ بهما في حياتهم، إلّا أنه لم يترك الهدية لهما بالصلاة لسنوات عديدة وذكرهم في كلّ موقف حتى بعد الوفاة.

لم يكن هذا الالتزام الديني بالقول بل يتجسّد من خلال العمل، وظهر هذا عندما فقد ابنه الأكبر من الأولاد «علي منصور» الذي كان جميل الخَلق والخُلق، ضرب مثلاً في الصبر والتأسّي بسيرة أهل البيت ، وهي من صفات المؤمنين.

حاضر في الوجدان

شخصية بهذه القيمة والمكانة لم تغب عن ذاكرة المحبّين رغم البقاء في المستشفى تحت رحمة ربّ العالمين لمدة سبع سنوات تقريباً، ولا يمكن أن تُنسى لما خلّفه من باقيات صالحات.

رحلت عنّا جسداً ولكن سيبقى عملك الصالح ذخراً لك في الآخرة، ومناراً يهتدي به أفراد أسرتك ومجتمعك في الدنيا، فيحثّهم على الاقتداء بشخصية مثلك في أقوالك الجميلة وأفعالك الأجمل.

رحمك الله وحشرك مع النبي محمد وآل بيته عليهم الصلاة والسلام، وستبقى نبضاً ينعش قلوبنا، ودعاءً نرطّب به ألسنتنا بحمد الله وشكره على ما حفلت به سيرتك الناصعة في جميع أدوار حياتك التي عشتها حتى صنعت لنفسك حياة ثانية تعيشها بعد موتك.

رحم الله من يهدي ثواب سورة الفاتحة لروحه وأرواح المؤمنين والمؤمنات.