آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 7:41 م

العقل والاختراق الشيطاني‎‎

السيد فاضل علوي آل درويش

ورد عن الإمام الباقر : إن المؤمن لينوي الذنب فيحرم رزقه» «ثواب الأعمال وعقابها ص 241».

في هذا الأثر والتوجيه الباقري الجميل تأكيد على مبدأ التحرز والحذر من تسويلات النفس وخطوات الشيطان الرجيم، إذ أن تسلل ذلك التزيين وطبع صورتها في النفس والانجذاب إليها يبدأ من مداعبة صورتها لمخيلة المرء واستعراضه لها وكأنها واقع، فلا ينتبه إلى أن هذه الخطوة ليست بالمرحلة النهائية وإنما خطوة تتلوها التفكير الجدي بممارستها والوقوع في براثن المعصية؛ ليجد نفسه قد انتقل سريعا من مرحلة التخيل متدرجا من خطوة إلى أخرى حتى يقارف الذنب، فإن الشيطان الرجيم قد أعد من الفخاخ والمصائد ما يوقع فيها العباد، وذلك بالتزيين واستثارة الغرائز وانفلات عقالها عن الضبط حتى تلامس نزواته ويقع في الخطيئة والنقيصة، ولهذا فإن القرآن الكريم يقدم لنا الحصانة والمنعة والنجاة من خطوات الشيطان الرجيم بالحذر والتنبه واليقظة المستمرة، وذلك من خلال إعداد الصورة الصحيحة وموقعيته من الإنسان وعلاقته به، فالشيطان الرجيم يصفه القرآن الكريم بأنه عدو ليس كبقية الأعداء بل عدو مضل مبين، وما لم يكن المرء بهذا المستوى من الوعي والبصيرة في التعامل مع أهوائه وشهواته التي يستغلها الشيطان كنقاط ضعف يسقط من خلالها الإنسان في حفر الآثام فإنه سيكون فريسة سهلة له.

والنقطة المهمة التي تطرحها الإشراقة الباقرية هي أن التفكير ومراودة الخيال بالمعصية، هل لها آثار سلبية تعود بالخسران على الإنسان أم أنها عديمة التأثير؟

مرة يكون الكلام حول مسألة الحساب والجزاء على التفكير بالمعصية، وتارة يكون حول النتائج السلبية المترتبة على اشتغال النفس ومراودتها وتزيين الشهوة المحرمة وما يوافق من ذلك الهوى، أما مسألة العقاب على مجرد التفكير بالمعصية وتخيلها في الذهن فهي منعدمة ولا يترتب عليها أي عقوبة من ناحية فقهية، ولكن هذا لا يعني انتهاء دائرة الخطر والضرر إذ هناك آثار وخيمة لابد من الالتفات إليها، فالتفكير في المعصية يعد مرحلة البداية والانطلاق نحو تطبيق ذلك على أرض الواقع، فالنفس تضعف مع تكرار هذه المراودة الذهنية ولعله يستجيب لها في لحظة ضعف مستقبلا، ولا يقطع دابر الشيطان الرجيم وأحابيله إلا بتجنب هذا النوع من التفكير، كما أن انشغال الذهن بإحدى الوساوس الإبليسية يجر نحو أخرى وتستسيغ وتتساهل النفس وتستمريء المعصية، وإذا أنست النفس بالآثام فإنها بالتأكيد تستوحش من الطاعة وتستثقل إتيان الصالحات والخيرات، فالتفكير بالمعصية يشعل النفس بنار المعصية ويطفيء منها نور الهداية والصلاح.

ولتصوير آثار التفكير بالمعصية وأضراره نضرب مثالا محسوسا يقرب الفكرة ويرسخها في العقل الرشيد، فإشعال النار يؤدي إلى إحراق كل ما تقع عليه في المنزل من أثاث وغيره وتحيله إلى رماد وتنهي وجوده المفيد والجميل، وهذه النار كفعل المعصية في تدمير النفس وظلمتها وانفلاتها نحو البهيمية الرعناء ونزع رداء الكرامة الإنسانية عنها، وأما التفكير بالمعصية وإن لم يكن نارا تحرق الأخضر واليابس ولا تذر شيئا في وجهها، إلا أنه كالدخان المتصاعد فهو لا يحرق ولكن انظر إلى حجرة تمتليء بسواده ورائحته ومفعولها التدميري، فالنفس كالزجاج الشفاف يفقد رونقه وفائدته إذا علق به الدخان الأسود، كما أن المكان المنتشر به الدخان وإن لم يتلف ولكن الرائحة الكريهة له تنفر منها النفوس.

ومن آثار التفكير بالمعصية التي يذكرها الإمام الباقر هو حالة الحرمان من التوفيق الإلهي، فهذا الحرمان لم يكن إلا بسبب تكدر القابل - النفس - والتي هربت بعيدا عن استمطار البركات والخيرات، فما دامت مرتعا للشيطان ومضمارا يصول ويجول فيه وتستحكم قبضته بسبب التسويلات والتزيين لفعل المعصية، فإن هذه النفس تتصحر وتحرم من فيوضات الرحمن، ومن ذلك ما ذكره الإمام الباقر وهو الحرمان من الرزق، فقد يكون الرزق مكتوبا للعبد ولكنه حرم منه وضعفت همته عن استحقاق وتناول ذلك الرزق بسبب تفكيره بالمعصية، وليس هناك أعظم ضررا وعقوبة أكثر من الحرمان من عطاء الله تعالى، والرزق لا يقتصر على الجانب المادي فقط وإنما يشمل الجانب المعنوي كالتوفيق لعمل الخير والعبادات المستحبة وغيرها.