آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 1:33 ص

جوهرة الزاد

ورد عن الإمام الحسن المجتبى : مَنْ تذكّرَ بُعدَ السفرِ اعتدّ» «تحف العقول ص 236».

هذه واحدة من كنوز الحكمة ومفردة من فصل الخطاب الذي أوتيه أولياء الله تعالى في تبيين الحقائق والمفاهيم وتقريب معناها المعنوي للعقول، وذلك بأسلوب الانتقال من المعنوي إلى الحسي الذي يرسخ المعنى ويحوله إلى ومضة نورانية، فما أجمله من تعبير بلاغي يلامس العقل بالوعي والوجدان باليقظة؛ ليصور لنا حقيقة تغيب عن البعض في غمرة الانشغال بملذات الدنيا وتحصيل أسباب القوة فيها من مال وعقار وغيره، إنها حقيقة الدنيا الغائبة عن العقول الممسوسة بالغفلة والاستجابة للشهوات، فتتناسى ذلك الدور الوظيفي المرسوم للإنسان بما يتوافق والحكمة والإرادة الإلهية التي تكسو شخصيته بمعالم التكامل والازدهار في قواه وملكاته، فهذه الدنيا مؤقتة لا خلود فيها لأحد وسرعان ما ينتهي أجله ويغادرها، وأما آفة الغفلة فتصور للمرء بأنه باق بلا زوال ولذا يتعامل مع الآخرة بالنسيان والدنيا بالتناول والتعلق والافتتان، ولا ييقظه من غفلته ويعيد له صوابه إلا تذكر هذه الحقيقة وهي أن الموت آت لا محالة بلا سابق إنذار، وعليه التعامل مع الأمر بتحمل المسئولية والعمل الذي يوافق كرامته ونجاته وعزته، والتجنب عن كل ما يحط مكانته من ارتكاب العيوب والنقائص والخطايا التي تسقطه وتتسافل به دنيويا وتحيق به العقوبة الأخروية التي لا تطاق، والمذكر الذي أشار له الإمام هو الموت والرحيل دون أن يأخذ معه شيئا مما تهواه نفسه، بل هو راحل نحو دار الغربة التي يقدم فيها بعمله فقط وهو ما يحدد مصيره ومآله ومصيره، فعين العقل هو الإحسان لرحلة السفر الأخروية بالتزود بالخيرات والباقيات الصالحات، فالهدف الأسمى للوجود الإنساني الرافع لشأنه والمنجي له من العقوبة الأخروية هو الوظيفة العبادية والحفاظ على مضامينها ومعانيها العالية، فالأحكام التكليفية محطات اختبار لمدى مناعة المرء من الاستجابة للشهوات والأهواء، كما أن الاعتراف بالحق ومحاسبة النفس تدعوه لتدارك ما وقع فيه من هفوات وزلات بالتوبة النصوح والندامة الحقيقية على ما اقترفه، فالإنسان مسافر عن هذه الدنيا في محطة قدرها الله تعالى فعليه حمل الزاد الإيماني وهو ما عبر عنه الإمام بالاستعداد، هذا التهيؤ للرحلة الأخروية يحركه اللوحة الكاشفة عن حقيقة الرحيل وترسخها في الذهن والوجدان، وتتجه بوصلة عمله وهمته نحو الطاعة والترفع عن الشبهات فضلا عن المحرمات، والبصيرة الموجهة للإنسان ترتكز على المعرفة الحقة وتنمية المدركات العقلية بعلوم القرآن والمعصومين ؛ لينطلق من بعدها متحفزا نحو تحقيق المضامين التربوية والأخلاقية للعبادات والمعاملات.

وبعد السفر الذي أشار له الإمام لعله يكون إشارة إلى المدة الزمنية الطويلة للحساب كما قال تعالى: ﴿.. وَ إِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ (الحج الآية 47)، أو الإشارة المعنوية إلى عقبات يوم القيامة وأهوالها التي تفزع منها النفس وترتعد الفرائص منها فلا يمكن التوصل إلى مستويات عالية من التكامل إلا بوجود إرادة قوية ورشد لتعزف النفس عن النزوات، فينير قلوبنا ويسرج فيها نور الموعظة ويزيل عنها ظلمة الغفلة، فكفانا غفلة وكأننا مغفول عنا الحساب والعقاب على ما يصدر منا؟!

نحتاج لتحقيق اليقظة الروحية وبعد النظر في خطانا إلى تذكر الرحيل من خلال جلسات محاسبة النفس فنستعرض أفعالنا لنتراجع عنها قبل أن يختم سجل الأعمال ولا مجال حينئذ للتغيير والتراجع، فإن كان هناك من أمر يستحق الانشغال به، فبالتأكيد ليس هو ملذات سنخلفها من ورائنا دون أن نحمل منها شيئا، بل ما يستحق الاهتمام به هو مستقبلنا الأخروي والذي يحدده ما حملناه معنا من زاد العمل، فنحن في الدنيا مجرد ضيوف مكثوا بين أهلهم وأصحابهم فأكلوا وشربوا وناموا ثم رحلوا، فهل نعي هذه الحقيقة ونبدأ الاستدارة إلى الانشغال بالعلم النافع والعمل الصالح؟