آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 1:12 م

الموت والشعر والمخيلة

محمد الحرز * صحيفة اليوم

الكلام عن الموت لا بد أن يأخذك إلى منطقة الشعر، ثمة علاقة أزلية بينهما، من جهة كونهما يحملان لغز الوجود وغموضه، ويتماثلان في تأثير كل منهما على الإنسان في الحياة. فالموت فكرة بلا معنى على حد قول أحد الفلاسفة، والشعر هو نداء الكون والطبيعة يستجيب له الإنسان، لكنه لا يراه ولا يعرف مصدره.

الغموض يقلق الإنسان ويصيبه في مقتل، يحاول أن يحل اللغز، وأن يفتح كوة يطل من خلالها على الموت، حتى يتعرف عليه عن قرب، ويعرف أين يعيش وماذا يأكل وكيف يدبر أمور حياته اليومية؟

يظل يحاول ويحاول. لكنه لا يصل إلى شيء. بيد أنه يحاول التمسك بوهم الوصول، بوهم المعرفة، وفي كل مرة يحاول فيها يدرك أنه وقع ضحية وهمه.

وإذا كان القلق يلازم تلك المحاولات، فإن المحصلة التي تركتها تلك المحاولات وارتبطت بالإنسان ذاته هي إرثه الأدبي والثقافي الذي حاول فيه أن يعبر عن هذا القلق بلغة المخيلة تارة وبلغة العقل تارة أخرى.

الشعر كذلك قلق وجودي عند الإنسان لكنه غير منفصل عن حياة الإنسان وعن وجدانه ومشاعره، يرى آثاره في الطبيعة في الكون في الإنسان نفسه، مثلما هو الموت تماما.

لكن الفرق هو أننا نعيش تجربة الشعر ونمارسها في الحياة اليومية، بحيث تتحقق التجربة على يد شاعرها، وتكون في مرمى بصيرته، لا مرمى بصره، تكون في موضع أحاسيسه، لا موضع مكان بعينه يتعرف عليه من خلالها. بينما الموت خلاف ذلك.

صحيح أنهما يشتركان في الغموض ذاته، وفي عدم تحديد زمانهما ومكانهما، ويشتركان أيضا في التعبير عنهما بالمخيلة في أكثر التجارب تفردا.

غير أن تجربة الموت لا يمكن خوضها ثم محاولة الكتابة عنها كما هو الحال في الشعر، ما يعرفه الإنسان عن الموت هو من خلال تجارب الآخرين، والذين جربوه، لا يسعهم إخبارنا بتفاصيل التجربة.

لذلك حدود العقل الإنساني تنتهي عند هذه التجربة، ولا تتعداها أو تتجاوزها لمعرفة ما وراء هذه التجربة.

ولا توجد أسلحة أخرى عند الإنسان سوى مخيلته كي يقارب هذا اللغز ويكشف عن خرائطه.

في رواية خوزيه سراماغو «انقطاعات الموت» فجأة يختفي الموت عن البلد، لا أحد يطاله الموت من البشر، تمر أيام ثم أسابيع ثم شهور. الناس تضطرب، الحكومة ومؤسساتها تضطرب، المستشفيات تزدحم، ودور العجزة، والمرضى الذين على حافة الموت لا يموتون رغم تمنيهم له، عمال حفاري القبور يفقدون أعمالهم، شركات التأمين تفلس.

ولا حلول سوى أن يذهب من يريد الموت خارج حدود البلد حيث الموت يعمل بجد.

سراماغو يتلاعب بالموت، ردود البشر هي ما تصادفه أثناء قراءة الرواية، انقلاب قيمهم في الحياة من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، من الخوف من الموت إلى أن يتمناه، من الخوف على فقدان الأحبة إلى العطف عليهم بتمني الموت لهم.

وهكذا نكتشف مع هذا التلاعب أن الموت يتحكم ليس في جسد الإنسان بيولوجيا فقط، وإنما أيضا في قدرته على التحكم في علاقاته وقيمه ونظرته وثقافته.

نكتشف معه أن الموت له فضيلة كبرى على الإنسان حينما حفزه على تحديه بالمخيلة، ففي نهاية الرواية لا يستطيع الموت الذي جسدته الرواية في شكل رجل غامض يرسل رسائل إلى الأشخاص الذين سيزورهم بعد أسبوع لأخذ أرواحهم، أن يحصد روح شخص كانت مهنته عزف الموسيقى، رجل بسيط، بل رأينا كيف الموت تأثر بهذا العازف وظل يستمع له ونسي أن يأخذ روحه.

وهذا درس نتعلمه أن المخيلة ما زالت تعمل على تحدي الموت بالخلود في الحياة.