آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 1:13 م

التربية الوازنة

ورد عن الإمام الباقر : شر الآباء من دعاه البر إلى الإفراط» «تاريخ اليعقوبي ج 3 ص 53».

هناك عاملان مؤثران في تربية الأبناء يعملان بنحو التوازي فلا يغلب أحدهما على الآخر، وإلا أدى ذلك إلى مسار منحرف في توجيهه وبناء شخصيته، فالعامل الأول هو الجانب العقلي فتصدر التوجيهات لتقويم سلوكياته وتنمية شخصيته بناء على تلك الآداب الأخلاقية والاجتماعية والنفسية، فإن اكتساب الابن الثقة بالنفس وحب المعارف يشكل البداية الحقيقية لازدهار وتنشيط مدركاته وقدراته، والعمل تحت تأثير هذا العامل لوحده يجعل من الأب مفرطا في توقعاته من مخرجات تربية ابنه، ويتعامل معه بشيء من الحدة والعنف عند بروز أي خطأ أو تقصير منه، كما أنه يمنع الآباء والأمهات من الاستماع لأبنائهم وتقدير ظروفهم، وأهم إمدادات الأسرة له وهو الاطمئنان والاستقرار والشعور بالمقبولية سيفقده الأبناء بلا شك بسبب التوقعات ذات السقوف العالية منه.

والعامل الآخر هو المشاعر العاطفية التي تمده بالدفء والحنان الأسري والذي يعطيه شعورا بالانتماء الأسري، وهذه المشاعر العاطفية كذلك تقع تحت حد الاعتدال فأي تغليب لها سيأتي بنتائج كارثية على شخصية الابن، فالزيادة في الإمداد العاطفي وتغليبها على الجانب العقل لحد إغفاله يسمى بالتدليل المبالغ فيه، وما ينبغي التركيز عليه هو تلك الصفات السلبية التي يكتسبها الابن المدلل لنكون قناعة بخطأ التعامل العاطفي الزائد، ومنها الإعجاب بالنفس والنظر بزهو فيصنع لنفسه صورة خارقة يمتلك فيها كل القدرات والإمكانيات، مما يصرفه عن اكتساب القدرات والمهارات بعدما وقع ضحية لذلك الإحساس النرجسي، كما أنه يكون متكلا في مجمل أموره على غيره فيتخلى عن تحمل مسئولياته والواجبات المستحقة عليه، ويكلها إلى الآخرين وحينها تصبح شخصيته ضعيفة ولا يثق بنفسه.

والتربية السليمة تحلق بجناحي العقل والعاطفة والموازنة بينهما في التعامل مع الابن وفي تقويم سلوكياته، فإذا أتى عملا حسنا لاقى من أهله التعزيز والتشجيع والمؤازرة للتقدم نحو خطوات أخرى، فراحة الابن وتوفير البيئة الآمنة والمنسجمة له لا يعني توفير كل طلباته مهما كانت، وترك محاسبته وإيقافه عند الأخطاء التي يرتكبها لا يشي بالمحبة المفرطة له، فهذا التصرف التدليلي الزائد من قبل الوالدين يسهم في تماديه وطغيانه واتصاف شخصيته بالرعونة.

العقوبة لما يصدر من أخطاء وتقصير من الابن لا يعني التعنيف اللفظي والجسدي، بل هو النطق بكلم «لا» أمام تصرفاته الخاطئة فهذا يقوم سلوكياته ويؤدبه على القيم الأخلاقية، كما أن العقوبة بإبداء الامتعاض وعدم الرضا من تصرفاته غير المقبولة يربيه على تحمل المسئولية ومنها مسئولية تصحيح ومعالجة أخطائه، وعليه تحمل نتائج تصرفاته فهذا يقوي شخصيته ويدعوه إلى إعمال فكره بالبحث عن حلول كما يقوي إرادته ويكسبه تحمل المتاعب مستقبلا، فالوالدان يساعدان ابنهما ويأخذان بيده ولكن ذلك لا يعني الاستمرار في ذلك حتى تضعف شخصيته ويصاب بالحيرة أمام أي مشكلة تصادفه، والتربية السليمة تقوم على الموازنة بين الإمداد العاطفي والاتكاء على المعالجات العقلية، وذلك من خلال مراعاة ثقته بنفسه وإفساح المجال له لممارسة حريته واتخاذ القرارات المناسبة وتحمل عواقبها، مع متابعة الوالدين وإبداء الملاحظات والتوجيهات لتقويته، فالرسالة المهمة التي يوجها الوالدان لابنهما اللذان يحبانه ويحيطانه برعايتهما وحنانهما، أن الحياة محطات وانعطافات ليست بالسهلة وعليه أن يعمل قدراته لصنع مستقبله وآماله ومعالجة العثرات والمشاكل التي تواجهه.