آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 1:31 ص

تجارب وحلول تربوية معاصرة

المهندس أمير الصالح *

”أبناؤكم خُلقوا لزمان غير زمانكم“ مقولة منسوبة لأحد أئمة أهل البيت النبوي .

بينما كان الأجداد والآباء يُكافحون ويجوبون الأرض من أجل لقمة العيش الكريمة، survivors، غاص في عالم الإنترنت وتطبيقات التواصل الاجتماعي بعض الأبناء حتى أصبحوا حالمين dreamers بشكل مفرط. وهذه ورقة أطرحها على مسامعكم لتجسير الهوة بين مفاهيم الآباء وتطلعات أولئك الأبناء بمعالجات تربوية، نسأل الله أن تكون نافعة وفعالة.

مع تسارع الطفرات في فضاء التقنية وعالم الاتصالات الافتراضي والتشريعات المدنية المصاحبة لها والانفتاح على العالم بكل توجهاته الأيديولوجية فضلا عن انبثاق توجهات جديدة داخل مجتمعاتنا وتشكل مفاهيم اجتماعية جديدة في أرجاء المعمورة، أضحى عدد ليس بالبسيط من الشباب يعيشون في انفصال تام عن الواقع المحيط ويتقمصون أساليب حياة مقتبسة من مشاهير الانستغرام والفيس بوك والتيك توك في أنماط الاستهلاك الخداعة، illusion. على ضوء ذلك، أبناء الأجيال السابقة «الآباء» لديهم خمسة خيارات أساسية في التعامل مع الواقع الجديد مع من حولهم من الأبناء والأحفاد:

الخيار 1: الاستغراق الطويل زمنيا في فترة ما يُسمى بالصدمة الحضارية والتفرج السلبي على كل المستجدات والتنطع في التعليق وفرز الصور والأحداث.

الخيار 2: الانعزال والانهزام من مسرح الحياة ظنا من عند أنفسهم بأن ذلك مظهر زهد بينما في الواقع هو هدر للحقوق وانهزام من معترك الحياة.

الخيار 3: التصادم مع أبناء الجيل الجديد ووصم كل التقنيات الحديثة بالفتنة دونما أي تمحيص بين النافع من الضار. وإطلاق التهم جزافا ضد الآخرين لمجرد استخدامهم للتقنيات الحديثة وفشل المسوق في إقناع الآخرين بالواقع من حولهم.

الخيار 4: الانقلاب على قيم الفضيلة السليمة والانخراط بشكل مفرط في العوالم الجديدة بغثها وسمينها والترويج لها تحت عناوين مختلفة مثل: الفكاهة، المفاكهة، الهروب من الضغوط، الترويح عن النفس، التسلية، التجديد، كسر الروتين، الاستكشاف، الوقوف على الجديد، الاستسلام، التيار أقوى، المخرج عاوز كدا …. إلخ.

الخيار 5: الاستيعاب للواقع وهضمه بعقلانية ومن ثم التفاعل معه بالتأثير فيه والتأثر به بناء على الاختيارات النافعة واستخدام تقنية الإنضاج الذاتي وترسيخ تطبيقات التفكير النقدي critical thinking.

عند توظيف تقنية الحذف elimination المستمدة من منطق علم الرياضيات للحصول على الإجابة الصحيحة من القائمة السابقة، نجد أن الخيار الأول والثاني والثالث والرابع خيارات لا تلتقي وأهداف التربية السليمة الناضجة. فالخيار الأول والثاني يعني السلبية التامة أمام موجات الانحدار. والخيار الثالث يعني التصادم وهدم البناء الأسري. والخيار الرابع يعني الانسلاخ من القيم والانقلاب على أسس التربية السليمة. إذا لم يتبقى إلا الخيار الخامس والأخير وهو الاستيعاب الذكي للواقع ومحاولة التأثير فيه بالحكمة واللين والعقل والموعظة الحسنة والتأثر بالجيد والنافع منه. وهذا الخيار أي الخيار الخامس يتطابق ومنطق القرآن الكريم في الدعوة إلى الخير والمعروف والأخذ به ونبذ الشر وإنكار المنكر.

اَلنُّجَبَاء في كل مجتمع يُدركون بأن الدنيا دار اختبار وحسن اختيار، لذا يتدارس أهل الخير فيما بينهم في المستجدات ويتلمسون طرق النجاة ويحددون الموقف السليم ويتبنونه وينقلون تجاربهم للآخرين في دائرة تأثيرهم بالأساليب الناجعة والكلام الطيب والمقال المفيد والأسلوب الشيق، ويبتعدون عن تراشق اللوم ويعملون على إيجاد الحلول الناجعة. ويكون نصب أعينهم، وقاية أنفسهم وأهاليهم من الوقوع في نار الإغراءات والمغريات وتجنب اتباع خطوات الشيطان والشهوات، ﴿قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ… الآية.

في عالم اليوم معظم الموضات الاجتماعية العالمية النوعية تنطلق وتمرر عبر فضاء النت والإعلام المؤثر وبعض تطبيقات التواصل الاجتماعي الشائعة الاستخدام بين الشباب، فتصنع لنا جيل من الشباب الحالمين dreamers. وفي المقابل، نعلم علم الواقع المحسوس أن هناك نسب أُمية «جهل» في التقنية كبيرة وفارق شاسع في استيعاب الواقع المُعاش عند البعض من الآباء بناء على معطيات ظروف كل جيل من الأجيال. ونعلم بأن مستوى التعرض لموجات التغييرات الاجتماعية من قبل الأبناء لا سيما في مجالات التعامل مع عالم تطبيقات الوسائط الاجتماعية والعالم الافتراضي عالية جدا وآخذة في التسارع والتزايد إلى حدود غير مسبوقة في تاريخ المجتمعات البشرية عامة ومجتمعاتنا خاصة. وتعيد تلك الموجات، تشكيل أفكار وقناعات وأنواع تفاعل الأبناء مع الآباء والمحيط.

في الماضي السحيق والقريب علاقة الأب مع الابن مبنية على أن:

الأب يُصدر الأوامر ويقود الأسرة ويوفر الطعام ويبني المسكن ويحمي أفراد العائلة ويهتم بها ويرسم خطوط نموها وقيمتها الاجتماعية. في المقابل الابن يطيع الأوامر وينفذها ويتقيد بها ويسعى لمرضاة والديه ويكون في كنفهم وطاعتهم. حاليا تلكم الصورة النموذجية آخذة في التآكل وإعادة التشكيل إلى نماذج أخرى لم نقف على نهايته المطاف لها بعد.

الآليات في التعامل والتواصل بين أبناء الأجيال بالمجمل تتغير مع تغير الزمان، إلا أن القيم والأخلاق والغايات السامية والثوابت الإنسانية الراسخة «الإيمان، حفظ الكرامة، الصدق، الأمانة، الوفاء، رد الجميل» تظل كما هي عبر الأزمنة. ولا بد من تسخير الآليات الفعالة في التواصل الفعال لترسيخ تلكم القيم والفضائل عن طريق تزاوج خبرة الكبار في السن في أمور ودهاليز الحياة العامة مع مهارة وحيوية الشباب في التعامل مع الحواسيب والتطبيقات الاجتماعية والخوارزميات المتطورة.

من الجميل أن نجعل المناطق العمياء تقنيا بالنسبة للبعض منا كآباء وكأبناء، مناطق حوار مشتركة داخل البيوت بين أبناء الأجيال المختلفة وتبادل وجهات النظر بينهم في استنطاق المحاسن وتشخيص المفاسد واستنطاق التوصيات عن حدود الاستخدام النافع وتجنب الفخاخ الأخلاقية. ولعل إعطاء الشباب منصات ومنابر التواصل مع بقية أفراد الأسرة والمجتمع من خلال الحوار اللين والهادئ والفعال في تسليط الضوء على النافع والتحذير من الضار من البرمجيات التقنية وتطبيقات التواصل الاجتماعية يجعل مساحة التفاهمات أكبر بين الأجيال ويخنق التوترات ويجعل الأمور أكثر فعالية في إنضاج ذوات الأبناء داخل بيوت أسرهم.

جملة اعتراضية:

انتماء الابن لأسرته في مقتبل صباه ناتج عن الشعور بإشباع حاجاته المادية من أكل وملبس ومسكن والاحتضان النفسي وزرع الكرامة والشعور بالانتماء والأمان.

في حالة وجود وسيطرة الخوف على الفرد داخل أسرته لأسباب مختلفة، فإنه بمجرد الوصول للاستقلال المالي فإن احتمال انفكاكه عن أسرته بل ومجتمعه وارد بنسبة كبيرة. وسيبحث الشاب حينذاك عن تكوين الذات أو الأمان أو البروز بين جماعات ذات أفكار وأيديولوجيات مختلفة عن أصل منبته. من المهم أن يشعر الإنسان بالأمان والكرامة والاحترام والانتماء ضمن أسرته طوال مراحل نموه ليكون لبنة بناء نافعة لمجتمعه ووطنه ودينه. والشعور بتلكم الأمور مرتبط بالكيفية التي تُشبع بها دوافع الطفل والمراهق والشاب البالغ من خلال تنمية تقديره واحترامه لذاته. لين العريكة عند الحوار مع الأطفال والمراهقين والبالغين طريقة جدا فعالة لتوثيق وترسيخ العلاقة وتوطيد الثقة في الذات وإزالة الخوف من التعبير عن الرأي علانية في وسط أسرته، أي باختصار إنضاج الذات.

انتهت الجملة الاعتراضية ونستأنف الحديث.

من خصال الذكاء الاجتماعي للمجتمعات النابضة بالحياة توظيف مساحات الحرية في العالم الواقعي والافتراضي في خدمة الأهداف النبيلة وترسيخ الإيمان بالقيمة للفرد ولأفراد الأسرة وللمجتمع والوطن والأمة. وتجنب توظيف الفضاء الافتراضي والواقعي في شحن الأجواء بالكراهية والتشرذم والتسقيط المتبادل وتبادل الأخبار المحبطة للهمم والتهكم على الآخرين والفجور في الخصومة ونشر الرذيلة والإرهاب الفكري والدونية.

نجح النبلاء والأوفياء في معظم شعوب الأرض في تسويق ما لدى مجتمعاتهم من قيم فكرية وتربوية وتقنية وتجارية ووعظ وحكم وابتكارات ومواهب وإبداعات ومؤلفات وتعليم عبر الأدوات العصرية ووسائط التطبيقات الاجتماعية وفضاء الإنترنت والإعلام. بينما بعض المجتمعات المحلية نجح السفهاء منهم في تسويق صور سيئة عن مجتمعاتهم وصناعة التفاهة ونشر الكلمات المبتذلة وتزيين الرذيلة وإهدار الكرامة واختطاف صوت المجتمع. لعل الوقت حان وإن كان متأخر بعض الشيء في أن ينبري أكبر عدد من الأوفياء والصالحين في استخدام ذات الأدوات التقنية لردم الفوهة المتسعة في التواصل بين الأجيال بدأ من دور العبادة والمدارس والمنتديات والديوانيات والقروبات الافتراضية داخل نطاق الناس حولنا من أبناء المجتمع. مع تقادم الوقت، أطفالنا يكبرون وفتياننا يصبحون شبابا ونحن نشيب والشيبة يهرمون، والغرس الطيب ينتج وسينتج ثمر طيب ولذا لا بد من نغرس قبل أن يأتي الآخرون فيبيعون سلع أفكارهم العنيفة وقيمهم المروجة للمجون على أبنائنا.

لعل من الأمور المستجدة اجتماعيا والتي تستحق المناقشة الموضوعية بين أبناء الأجيال وداخل البيوت بين الأجيال بدل الاستغراق المفرط في مشاهدة أفلام السينما وألعاب الفيديو وتصفح التك توك:

1 - العلاقات الأسرية البينية ما بعد الرقمنة،

2 - الانفتاح في العلاقات بين التعزيز والتفريط،

3 - أنماط الاستهلاك وثقافة الادخار ومحاكاة المجتمعات الاستهلاكية،

4 - سوق العمل الحالي وتعزيز فرص الالتحاق به،

5 - التأمين الصحي بين الجودة والتكلفة،

6 - محاولات ضبط نفقات الفواتير لخدمات المنافع،

7 - أثر استخدام تطبيقات التواصل في تجذير مفاهيم الخير والتعاون،

8 - ما بعد قيادة المرأة وتأنيث بعض الوظائف وآفاق حسن التبتل

9 - تطوير أداء دور العبادة وانخراط الجميع للنهوض بها،

10 - الهوية الاجتماعية الأصلية في ظل العولمة الإعلامية.

11 - مراجعة الأعمال التي تؤديها الخادمة المنزلية وإمكانية أداءها بأيدي أفراد العائلة في إطار جدول توزيع المهمات بين الأبناء ومن ثم الاستغناء عن العاملة وإعادة توظيف المبلغ الموفر في بند مصروفات آخر أكثر إلحاحا.

ختاما: ”نحن نكبر سويا“ وأنا شخصيا فخور بكل الشباب والفتيات الصالحين والصالحات لما أنجزوه في اقتحام ميادين العمل الحر والشريف وطرقهم أبواب مشاريع ريادة الأعمال بدل انتظار التعيين الوظيفي أو الاعتماد على عطاء والديهم والمثابرة في التحصيل العلمي والمهني والأكاديمي المميز. وفي ذات الوقت أشيد بالشباب والفتيات المحافظين من طرفهم على القيم والأخلاق والإيمان والنظافة الروحية وابتعادهم/ هن عن مواطن الشبهات ووحول الزلات وإغواء أهل الرذيلة ومحاربي الفضيلة. لكل الشباب/ الفتيات المثابر/ ة والمحافظ/ ة، أقول لهم ”ارفع لكم القبعة، فنحن نكبر سويا وبكَ/ بكِ نفتخر فكونوا نعم الأبناء لنعم الآباء والأمهات وتدارسوا معنا سويا ما ترونه الأنسب لتلمس طرق النجاة لغد أفضل“. وفي المقابل أشكر كل الآباء والأمهات في حسن تربية الجيل الصاعد وتفعيل النقاشات المثمرة ودعم روح التفكير الناقد.