آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 11:39 م

الفرعونية الفكرية

ورد عن أمير المؤمنين :.. «من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ..» «نهج البلاغة، الحكمة: 173».

الشعور بالكمالية المفرطة تمتد تأثيراتها على عقل ووجدان وسلوكيات الفرد، وذلك أنه يتوصل إلى قناعة مفادها أنه وصل إلى قمة الهرم وأعالي المجد والنجاح، وهذا ما يؤهله - حسب اعتقاده -، إلى التميز والتوحد في اتخاذ القرارات والخطوات المبنية على تصوراته ووجهات نظره الخاصة، ويترتب على ذلك الاستغناء عن تبادل الآراء وإجراء النقاشات مع الآخرين في أي قضية ومسألة علمية أو ثقافية أو اجتماعية أو غيرها، فالفرعونية الفكرية التي ترسخت في نفسه جعلت نظره ذا بعدين مختلفين: اتجاه إلى نفسه فيعلي شأنها وآخر يستقزم الغير ويسخف من قدراته وإمكانيته فلا مضاهاة ولا تقارب بينه وبين غيره، وفكرة التشاور والعقل الجمعي الذي تطرح أمام المجتمعين فكرة أو ظاهرة لمناقشتها لا يمكنه تقبلها، بل ويرى فيها مضيعة للوقت ولا جدوى من محاورة من ليس أهلا للوقوف أمامه والإدلاء بدلوه، وهذا التأليه لقدراته التفكيرية يترتب عليها نتائج وخيمة وتبعده عن لغة المنطق والصواب، إذ مهما بلغ المرء في مستواه التفكيري فإنه لا غنى له عن ضم عقول الآخرين معه؛ لتكوين صورة شاملة تحوي على المعطيات والعوامل والمسارات والنتائج، ولكن تفرعنه وتضخيم ذاته سيغيب عنه هذه الفائدة وفي أكثر الأحيان ستغيب عنه من النقاط ما يجعل آراءه غير سديدة وتنحرف عن الدقة العلمية.

الثقة بالنفس والانطلاق في إبداء ما يتولد عنده من أفكار وتصورات وتحاليل منطقية تعد ومضة إيجابية وعاملا مهما لتحقيق الإنجازات، ولكن المستوى المفرط منها يجعله منغلقا على نفسه ويدير ظهره للدخول في نقاشات يثبت فيها رأيه أو يستمع للنقد الإيجابي الذي يبصره بالأمر أكثر من ذي قبل، فالثقة المفرطة بنفسه هي ما دعاه لحالة الاستبداد أي التمسك بالرأي وعدم قبول نقده أو إبداء الملاحظات والإشكالات عليه.

الاستبداد بالرأي يحمل صورة خاطئة عن طريقة تكوين فكرة أو وجهة نظر عن أي مسألة ومفهوم وظاهرة، فالتصور الأولي يتعامل مع مستوى البحث والتدقيق وهذا لا يعني الوصول إلى تحليل كامل يحمل جميع الأبعاد، فقد تغيب عنه بعض النقاط وهذا بالتأكيد سيؤثر على صوابية الفكرة وشموليتها، وهذا ما عبر عنه أمير المؤمنين بمعرفة مواقع الخطأ، والمسبب لذلك هو الإعراض عن التشاور والتباحث وتبادل وجهات النظر مع أهل الرأي، فالنقد الإيجابي لأي فكرة سيخضعها لمجهر البحث من عدة زوايا ويقلبها على بساط البحث حتى تتجلى عدة تصورات يمكن الخروج منها برأي أشمل وأدق.

كما أن النظرة الموضوعية البعيدة عن التأثر بالخلفيات العلمية والثقافية والجوانب العاطفية أمر مهم في تأصيل أي فكرة وموضوع، وقد ينساق المرء خلف مبتنياته وقناعاته التي تجعله ينظر للأمر من زاويته الخاصة، ويهمل كل الاحتمالات التي لا تتوافق مع مدرسته العلمية والفكرية.

التخلي عن الفرعنة والشخصنة يجعل مدار تفكير المرء البحث عن الحقائق من أي مصدر كان ولو أبداها غيره بنحو الجزئية أو الكلية، فالصوابية لا تخضع لملكية أحد في وجهات نظره فقد يكون أحد أطرافها عنده والبقية عند غيره، وليس بمعيب أن نشتبه في فكرة أو نخطيء فهذا أمر وارد عندنا كبشر، بل المعيب هو الإصرار على الخطأ والتصورات الناقصة والآراء الخاطئة، فيغض صاحبها بصره وسمعه عن الأصوات الفكرية الأخرى ويرفض مناقشتها لا لشيء سوى أنه يرى نفسه أوحدي زمانه.

العقل الجمعي والتباحث المشترك حول الأفكار والظواهر يكون صورة متكاملة وخالية من الكثير من جوانب القصور والخطأ، فالتتبع العلمي لا يقتصر على التدقيق والبحث عن مصادر المعلومة في بطون الكتب، بل يشمل هذه الحالة التكاملية وهي التشاور وطرح البحث على طاولة النقد الإيجابي بغية الوصول إلى الجودة والصوابية.

والمستبد بآرائه لا يعرف مصلحته فهو يظن بتفرده وتمسكه بآرائه سيجعل منه ألمعيا لا يضاهى، والحقيقة أنه يهد صرحه الفكري بالاتجاه نحو النقص والقصور، فالتشاور والمباحثة العلمية لا تنقص من شأنه بل تجعل أفكاره وأطروحاته منطقية جدا، فالنضج الفكري والتقدم العلمي حصيلة عدة عوامل، منها: تصوراته الخاصة وقدرته البحثية ومساندة العقلاء له، فمن الخطأ أن يتعجل المرء في تكوين قناعاته العلمية والفكرية استنادا على رأيه الشخصي فقط.

?