آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 5:59 م

مَنْ يُشبه أمي؟!

عبد الباري الدخيل *

عجيب أمر هذا الغياب! فإنه يقلل العواطف البسيطة، ويزيد العظيمة؛ كالريح تطفئ الشمعة، وتشعل النار.

اليوم أعود لحضن أمي الثانية، وريحٌ عاتية أشعلت حرائق الشوق في قلبي، وأحتاج لجنَّةٍ أُحشر فيها؛ ليعود الهدوء لنفسي القلقة، وإذا حرمنا من جنَّةٍ تحت أقدام الأم نرتاح ونرمي همومنا عند بابها، فقد عوضنا الله بالأخت.

أختي الكبرى هي أمي بعد رحيل أمي الأولى؛ فهي الوجه الآخر المنعكس في المرآة.

وجهها يشبه وجه أمي.. قلبها يشبه قلب أمي.. صوتها يشبه صوت أمي.. طهيها طعامًا لذيذًا كطبخ أمي.. حنونة كأمي.. لطيفة كأمي.. دعواتها تنبض بالحياة وتزرع الأمل كأمي، ابتسامتها مشرقة كابتسامة أمي، حزنها مؤلم كحزن أمي، سريعة دمعتها، سريعة ضحكتها، سريع صفحها كأمي.

ومَنْ يشبه أمي؟! لقد قال الله لقلبها: ”كن“، فكان جنّة عظيمة؛ فلا أجمل من قلبها، ولا يشبه شعور العودة للبيت شيء.

وغيابي عن زيارتها سببه الدراسة في مدينة بعيدة، وإن كانت كل التبريرات تسقط أمام واجب صلتها وتكرار زيارتها. فقد توفي أبي بعد عشرة أيام من التحاقي بالجامعة، ولم تمهل نار الحب أمي فلحقت الحبيبة بحبيبها بعد شهر، فصرت بين خيارين أحلاهما مرٌّ، إما أن أترك الدراسة، أو أن أجمع بينها وبين العمل، معتمدًا على نفسي في تدبير أمور معيشتي.

وقد يسّر الله لي صاحب مؤسسة دعمني وشجعني، فصرت أعمل معه في ساعات الفراغ وأيام الإجازات.

ترجلتُ من سيارة الأجرة، ومشيت خطوات، ليواجهني بيتها بألوانه الزاهية، وترتيبه، ونظافة محيطه المعتادة؛ فأختي وزوجها ممن يحبون النظافة والترتيب.

وقفتُ أمام نافذة المطبخ؛ أتأمل جمال ألوانها، حيث تتوسطها باقة ورد، وتقف أمامها دراجة عملت فيها يد ابنة أختي بفن وذوق، وأسكنتها الألوان الهادئة والمتناسقة، وملأت جانبيها بسلتين من الأزهار الموسمية…

وقفت أمامها أمسك بمعطفي بين يدي، وعيناي ترقبان المكان، وقلبي ينتظر أجمل لقاء.

إلى يمين النافذة أطفال يلعبون الكرة بحماس، يركلونها ويركضون خلفها، يضحكون ويتنادون للعب والفوز.

وإلى يسار النافذة حديقة صغيرة صنعها زوج أختي، وقد احتلت الأرجوحة طفلة أظنها حفيدتها، تتأرجح بحذر، خوف السقوط، رغم الفرحة الظاهرة على وجهها.

وأخيرًا بدأت الحواس الخمس بالتمركز على ما تخفيه النافذة؛ فرائحة الطعام الزكية نصبت فخاخها للقادم لتصطاده، وصوت أختي وهي تردد مع «ملا باسم» قصيدته يلامس القلب، وبقي أن ألمس كفها بكفي، وأمتّع ناظري بوجهها الذي يشبه وجه أمي.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 3
1
عبدالكريم
[ الدمام ]: 16 / 12 / 2021م - 6:27 م
جميل

عندما ترحل الأم نعود فجأة أطفالا نحنّ لحضن الأم، وفعلا نرى أمنا و حنانها و رعايتها في الأخت مهما تقدم بنا العمر
2
عبدالكريم
[ الدمام ]: 16 / 12 / 2021م - 6:30 م
جميلة وتحمل من المعاني الشي الكثير
🌹🌹تسلم يمينك يغالي🌹🌹
3
ابو محمد
[ صفوى ]: 16 / 12 / 2021م - 7:24 م
قصة جميلة تبين ولو القليل عن الاخت الغائبة الحاضرة الله يخلي لكم خواتكم.