آخر تحديث: 16 / 4 / 2024م - 4:10 م

”خبرًا من الأخبار“!

المهندس هلال حسن الوحيد *

ماتَ للشَّاعر - أبي الحسن التهامي - ولدٌ صغير فحزنَ عليه حزنًا عظيمًا ورثاه بقصيدةٍ من عيونِ الشّعر العربيّ قال في أحدِ أبياتها:

بينا يُرى الإنسانُ فيها مخبرًا ** حتى يُرى خبرًا من الأخبارِ

وما عناني في هذا البيت أننا كما ذكر الشَّاعر ننقل الأخبار: فلانٌ مات، فلانٌ سافر، وفلانٌ عاد. وأحزن الأخبار التي ننقلها هو خبر فلان ”مات“! في الماضي، كان الخبر يصل بعد مدَّة، عن ناقل، ثمَّ عن ناقل، حتى جاءت الصحف والهاتف. أحيانًا يتأخر الخبر وتطول المدة، وقد يكذب الخبر أو يصح. أما اليوم، فإنَّ أخبار الموتى ”مؤكدة“ وأسرع من وميضِ البرق، وتلاحق النَّاس أينما كانوا. أخبارٌ مفصَّلة، لا يمكنك أن تخطأ الاسمَ أو تجهله، اسمه واسم أمّه وإخوته وأخواته وزوجه والأعمام والأخوال وأولاده وبناته، والعمر والمهنة ونوع المرض ومكان العزاء. وإن فاتك كلُّ هذا ترى صورةَ المتوفى!

بلغ أميرَ المؤمنين عليه‌ السَّلام موتُ رجلٍ من أصحابه ثم جاءَ خبرٌ آخر أنه لم يمت، فكتبَ إليه: بسم الله الرحمن الرَّحيم أما بعد فإنه قد كان أتانا خبرٌ ارتاعَ له إخوانك، ثم جاءَ تكذيبُ الخبرِ الأول، فأنعم ذلك إن سررنا، وإن السرور وشيك الانقطاع يبلغه عما قليل تصديق الخبرِ الأول، فهل أنت كائن كرجلٍ قد ذاقَ الموتَ ثم عاشَ بعده فسألَ الرَّجعةَ فأسعف بطلبته فهو متأهبٌ بنقل ما سرَّه من مالهِ إلى دارِ قراره، لا يرى أن له مالًا غيره؟ واعلم أن الليلَ والنَّهار دائبان في نقصِ الأعمار وإنفَاد الأموال وطيّ الآجال، هيهاتَ هيهاتَ قد صبحا عادًا وثمود وقرونًا بين ذلك كثيرا فأصبحوا قد وردوا على ربهم وقدموا على أعمالهم، والليل والنَّهار غضَّان جديدان لا يبليهما ما مرَّا به يستعدان لمن بقي بمثل ما أصابا من مضى، واعلم أنَّما أنتَ نظيرُ إخوانك وأشباهك مثلك كمثل الجسد قد نزعت قوته فلم يبق إلا حشاشة نفسه، ينتظر الدَّاعي فنعوذُ بالله مما نعظ به ثم نقصر عنه.

لكن لا يجب أن تحزنوا - أطالَ الله أعماركم - هكذا هي الحياة ناقلٌ للخبر وفي ساعةٍ أخرى ينقل النَّاسُ عنه الأخبار. صارت أخبار الموت قليلة التأثير فينا، نقرأها بجلدٍ سميك، مثل غيرها من الأخبار. فترى الأسماء لا تلبث في ذاكرتنا إلا قليلًا وتغيب عنها، حتى يأتي اسمٌ آخر وهكذا دواليك:

حكمُ المنيّةِ في البريَّة جارِ ** ما هذهِ الدنيا بدارِ قرارِ

مستشار أعلى هندسة بترول