آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:57 ص

ثقوب سوداء

السيد فاضل علوي آل درويش

ورد عن أمير المؤمنين : يا أيّها النّاس، طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس» «بحار الأنوار ج 72 ص 49».

كم من مخدوع يسير في ركاب الشيطان وهو يظن بأنه تحت راية الإيمان والصلاح، فيقصر نظره على أدائه الفرائض بل والمستحبات ويلازم القرآن الكريم ويحمل معرفة شرعية من خلال تدبره، بينما بناؤه الأخلاقي ضعيف فيصاب بآفة التفتيش والتنقيب عن أخطاء الآخرين لبثها فيظن نفسه على خير وهو باسط على شر مستطير، بل ويخادعه الشيطان فيحسب أن الحديث بسوء عن أخطاء الغير هي من باب تقديم النصيحة وتنبيه الغير، وهو في قرارة نفسه متيقن من مساره الشيطاني حيث يفتش عن عيوب من يكرههم ويحقد عليهم، بينما يتغاضى عن سيئات المقربين من حوله ويغض الطرف عن زلاتهم.

وكأن أمير المؤمنين يتلمس مشاكل الفرد والمجتمع في كل زمان وهو بينهم، إذ يشير هنا إلى آفة تفتك بالمرء وتحرفه عن المسار الصحيح لإصلاح نفسه والاتجاه بها نحو التحلي بالفضائل، بدلا عن مخطط شيطاني يوقعه في حفرة تتبع عثرات الآخرين والبحث عن زلاتهم وأخطائهم. فيشعر حينها بالراحة لوجود من يخطيء ويرتكب السيئات، فيكون ذلك داعيا لتركه إصلاح نفسه ومعالجة عيوبه ونقاط ضعفه، وكفى بهذا الأثر السيء لآفة الانشغال بعيوب الناس حيث يصرف همه ووقته وجهده في طلب أخطاء الغير، مما يوقعه في كثير من آفات كلام اللسان وسمع الآذان من غيبة ونميمة وقول السوء بمختلف أشكاله، ويا له من وزر ثقيل ينوء بحمله يوم يرد على الجبار للمحاسبة والجزاء، فيعطى من حسناته إلى من تتبع عيوبهم وأذاعها وإن لم تكف لذلك أخذ من سيئاتهم لتضاف إليه.

وكفى بمن تتبع عيوب الغير به خسارة أن ضاع عمره هباء منثورا لم ينتج فيه شيئا من المحاسن، في وقت كان المؤمل منه كمخلوق مكرم بالعقل أن يستعين به ليفكر في المكاسب التي يستفيدها من هذا الفعل الشنيع.

وأما الأضرار الاجتماعية فلا شك أنها تصل إلى سقف الفتن والخلافات والمشاحنات، وفقدان الكثير للثقة بالآخرين وتعلو أسهم الظنون السيئة والاتهامات بالباطل، إذ أن المتتبع للعثرات لن يكتفي باستماعها والظفر بها، بل يسعى جاهدا لبثها ونشر هذا العفن في المجالس والانشغال به، لعله يطفيء شيئا من جمر قلبه الممتليء حقدا وكراهية، فيضيف له التصنع والتلون والمجاملات الممقوتة كأدوات للحصول على مثالب الآخرين، وكم من قطيعة حدثت وامتدت لسنوات بسبب مكر متتبع للعثرات بل وانشحنت النفوس بالكراهية المتبادلة.

ووسائل التواصل الاجتماعي زادت من حظوظ تتبع العثرات، فلا ترى أي تفاعل مع إنجاز أحد أو نجاح متفوق أو نبوغ موهبة فيمر عليها مرور الكرام، وأما إذا وضعت قنبلة إعلامية تتحدث عن شخص بسوء فما أكثر التناوش والتناول والتعاطي له مع إضافة البهارات والمخللات القولية السيئة، وهذا - بالطبع - مؤشر خطير على انحدار الفكر وتسافله مع غياب للتدين الحقيقي، فبدلا من نشر غسيل الناس وصفحات أعمالهم الخفية، ينبغي ملء هذه المواد بالمعارف المفيدة كالمسائل الشرعية والمعلومات العامة والمواعظ، والتي تساعد الإنسان على بناء نفسه أخلاقيا وعلميا يزداد في كل يوم ألقا.

وهل تتوقع أن هذه النفس المريضة تقنع بخبر أو اثنين أو أكثر وتتوقف بعد ذلك عن الانزلاق في الخوض في أسرار الناس وخصوصياتهم؟

كلا لن يتوقف أبدا وإنما هو منحدر يتنقل فيه من خطوة ومرحلة إلى أخرى حتى يسقط في الهاوية، فيصبح مرض تتبع أخطاء الغير والتفتيش عنها سلوكا دائما وديدنا لا يفارقه أبدا كظله.

وحري بالمؤمن أن يسلط نظره على عيوبه وأخطائه فهي ما سيسأل عنه ويحاسب عليه يوم القيامة، فمراقبة الجوارح ومحاسبة النفس كفيل بتألقه وترفعه عن الآثام وإن وقع في أحدها يوما، فكما أنه يهتم بنظافة غرفته وملبسه وشكله الظاهري، وكلما أصابه وسخ في يده أو ثوبه أسرع لتنظيفه، فكذلك ينبغي في متابعته لأخطائه والعمل على إصلاحها والتخلص من تبعاتها بنحو مستمر، فلا يغفل عن أحدها لئلا يتغلغل في نفسه ويتجذر فيصبح سلوكا يصعب اقتلاعه.