آخر تحديث: 19 / 4 / 2024م - 1:33 ص

صياغة الشخصية ومواجهة التحديات

السيد فاضل علوي آل درويش

من أصعب المواقف التي نشعر فيها بالاستيحاش وظلمة الدنيا من حولنا حينما نرى تلك المسافات بيننا وبين الآخرين، فالشعور بالغربة الحقيقية لا يكون في بلاد غير الوطن يلتف فيها من حوله أحبابه ومن يبادلونه الاحترام والود، ولكنها أحاسيس غربة النفس والهواجس المحيطة بها من غدر الزمان والصدمات العاطفية والأزمات القاهرة، فهل سيلقى من يمد له يد العون لمساعدته على الخروج من مأزقه أم أن الانسحاب الهاديء والانشغال عنه سيكون قرار الأكثرية؟

نعم هي الدنيا مخيفة لمن يتعامل فيها بالمعادلات المادية حيث لا نعلم متى تحل المصاعب والعراقيل المكدرة للعيش والسالبة لراحة البال وهدوء النفس، فالضعف البشري على المستوى النفسي والجسدي يجعل من الإنسان أضعف عامل مؤثر في الحياة، ولذا متى ما حط البلاء في ساحته بغير سابق إنذار اهتز كيانه وأصاب الضعف قواه وإمكانياته، كما أن البحث عن المخارج والحلول الممكنة ليس بالسهل من جهة تحققه ومن جهة متطلبات النهوض ومواجهة التحدي، فعودة الاتزان الفكري والوجداني هو أول موطيء لقدمه في مضمار السعي الحثيث، وهذا ما يحتم علينا فهم تأثير الأفكار السلبية والمشاعر مفرطة الحساسية على خطانا وواقعنا، فلا يمكننا اغتنام الأوقات وتكثيف الجهود للوصول للآمال والأهداف ما لم نتحل بسعة الصدر وهدوء النفس قدر الإمكان.

الثقة بالله تعالى في تدبيره لأمور عباده وفق العدالة والمصلحة لهم يكسب الإنسان قوة واقتدارا في ساحة العمل بعيدا عن المخاوف، فيخطط المرء ويفكر قبل أن يخطو خطوة واحدة ومن ثم يندفع في ميادين العمل متسلحا بالثقة بقدراته وتخطيطه وتحمل المتاعب والمشاق، وكذلك على المستوى الاجتماعي يكتسب المرء مكانه ومقبوليته في محيطه من خلال عامل داخلي تمثله مكوناته الشخصية، فالآخرون في تعاملهم وطريقة تعاطيهم معه في الحديث لا تخضع لمقاييس يضعونها ويطبقونها عليه كما يتوهم البعض، ولكنه يفرض وجوده من خلال ما يمتلكه من أفكار وثقافة ولباقة في الحديث وحسن تعامله مع الغير.

وكما للقدرات الذاتية دور في أخذ المرء مكانته والبدء في خط سيره في الحياة لتحقيق أهدافه وتطلعاته، كذلك للتربية الأسرية دور في تكوين ملكاته وتحديد أطر شخصيته، من خلال ما يقدم له من توجيهات ومتابعة سلوكياته وتقديم المحفزات له كلما صدر منه سلوك حسن، فما نراه من أطفال تنضح وجوههم وكلماتهم بالثقة بالنفس ونسبة الذكاء المرتفع وتقديم الأفكار والأعمال الإبداعية وإنجاز ما يطلب منهم من واجبات، فكل هذا يعبر عما تلقونه من مساندة أسرية ويقودهم نحو تكوين شخصيته المستقلة القادرة على التعامل مع مختلف المواقف والتعامل مع الأزمات.

بناء النفس وتكوين القدرات الخاصة يعتمد بشكل أساسي على تنمية الفكر وضبط السلوك وفق القيم، كما أن الكلمة المسموعة والرأي الذي يلقى الاهتمام والمناقشة والرد الإيجابي يحمل معالم القوة من منطقيته وأسلوب صياغته، فالاندماج الثقافي والاجتماعي لا ينشأ من التوافق التام على مختلف القضايا والمفاهيم، فذاك أمر لا يمكن تحققه لاختلاف وجهات النظر وطرق تناول أي موضوع، وإنما الفوارق علامة طبيعية ويمكن تجاوزها من خلال احترام الرأي الآخر مهما كان مستوى التباين معه، فاختلاف وجهات النظر يشكل أفقا معرفيا يتيح للمرء الاستماع والتعرف على وجهات النظر الأخرى وإخضاعها لمجهر النقد الإيجابي، والمهم هو مراعاة آداب الحوار وعدم النزول إلى مستنقع التنابز والتهكم وبذر الكراهية في القلوب.

ومما يقوي ملكات وقدرات المرء أجواء التنافس مع أقرانه، فالهمة تعلو وتقوى حينما يدخل الفرد مضمار العمل وإثبات الوجود إذ يعد هذا التنافس عامل تحفيز لتنمية القدرات المختلفة، والتنافس الأهم هو التحدي مع النفس لجعل الأيام القادمة أفضل من السابق، وصياغة شخصيته الراقية بالتحلي بنقاط القوة والتخلي عن السلبيات، فيضع لنفسه مجهرا يتفحص من خلاله التبدلات والتغيرات التي تطرأ على إمكانياته، مما يدفعه نحو البحث عن الأفضل بعد إجراء المراجعات الذاتية.