آخر تحديث: 23 / 4 / 2024م - 9:39 م

القيمة الوجودية للدنيا‎‎

ورد عن الإمام السجاد : «.. فلا تلتمسوا شيئا مما في هذه الدنيا بمعصية الله» «بحار الأنوار ج 75 ص 150».

في هذه التحفة السجادية ينير لنا الإمام عن حقيقة الدنيا، والتي ينبغي فهمها واستيعابها ليزاول المرء وظيفته فيها وفق الوقائع لا الأوهام والأمنيات، فالدنيا مرحلة مؤقتة من حياة الإنسان لينتقل بعدها إلى مرحلة الخلود، فالدنيا دار عمل وفعل المعروف وتحقيق العبودية الحقة، يمارسها المرء وفق عزته وكرامته وسعيه التكاملي في جميع أبعاد شخصيته.

ولذا يحذر الإمام من الانزلاق إلى مستنقع الهبوط والانحطاط الذي يسلخنا من معنى الإنسانية، وليس هناك أشد من عمى البصيرة والضعف البشري حينما ينشغل المرء بمعصية أوامر خالقه ومدبر شئونه والمطلع على جميع أحواله سرها وعلنها، والأفظع من ذلك أن تكون تلك الممارسة للمخالفات بجوارح أنعم بها عليه مولاه.

الإمام يسعى في هذه الحكمة إلى تحلية نفوسنا بما يهذبها ويصلحها ويجنبها العوامل المؤثرة عليها سلبا من خلال اتباع الأهواء والشهوات المتفلتة، فإن مساويء الأخلاق والرذائل هي بذرة الشر والانحراف عن الصراط المستقيم، وكذلك تلوث القلب بالمشاعر السلبية تحاه الآخرين كالكراهية والأحقاد بسبب الاحتكاكات والنقاشات الحادة فتسبب الخصومات، ولن تستقر النزعة الإيمانية عند المؤمن وهو مثقل بهموم النزاعات والنظرات الاستصغارية تجاه الآخرين، كيف ومن أهم المضامين العبادية تنزيه النفس من المشاعر السلبية وروح الانتقام والأنانية والتكبر.

ومما يعين على فهم حقيقة الدنيا وصورتها الزائفة التي تأخذ بمجامع قلوب أهلها، النظر في أحوال الأمم السابقة وما جرى عليها حين أخذت بطريق الملذات والشهوات فخرجوا منها خالي الوفاض، أفلا يكون ذلك عبرة وعظة لمن تزيغ عينه نحو الحرام فيأخذ مالا لا يحل له كالرشوة والربا، أو تسول له نفسه المريضة بنظرة حرام نحو امرأة أجنبية، فإن من قبله من الأمم مارسوا مختلف ألوان الانحراف والانحلال الأخلاقي والتي استعرضها القرآن الكريم في الكثير من آياته، قد أغرتها أسباب القوة البدنية أو المالية، فما أبهت بالقيم الإنسانية وتخطت زمام الأحكام العقلية الداعية لصون النفس من الرذائل والعيوب، وواجهت الأمر المحتم وهو الرحيل من الدنيا الزائلة، وقد تعرى الإنسان من لباس عزته وكرامته فانسلخ عن القيم التي ترفع شأنه وآلى على نفسه باتباعه للشهوات ببصيرة عمياء أن يعيش الحياة البهيمية الصرفة.

ومن معالم فهم حقيقة الدنيا هو فهم مصادر القوة التي تكسب الفرد الاقتدار والسيطرة والتقدم، إذ أن البعض يتعلق عقله ووجدانه بأسباب القوة الظاهرية كالمال والوظيفة والمنصب والقدرة البدنية وغيرها، ويغفل عن حقيقة مسبب الأسباب وهو الله عز وجل الذي يدبر شئون عباده ويملك القدرة المطلقة، فكم من ساع نحو هدف لم يصل إليه وخابت ظنونه وجهوده، وكم من معتمد على مصدر قوة قد خذله في ساعة الشدة والحاجة إليه، ولذا فإن الإيمان بالغيب وبالقدرة الإلهية يكسب الإنسان نقاط قوة، ومن أهمها الثقة بالنفس والأمل والصبر على المصاعب دون أن يتسلل إليه اليأس والإحباط، فتعثره مجرد محطة عليه أن ينهض مجددا منها ويزاول تحقيق آماله بعد أن استوعب الدرس والأخطاء.

ومن معالم حقيقة الدنيا أنها دار عمل وصنع معروف لينتقل معه سعيه إلى دار الخلود في يوم القيامة، هذا الدور الوظيفي المحقق لتكامل الإنسان وسعادته يتوافق مع حكم مدركاته العقلية، ولذا حذر الإمام من قدوم المرء يوم القيامة وقد احتطب على ظهره أوزار الآثام والخطايا، فلا يدري هذا الإنسان الضعيف بمخالفته للأوامر الإلهية ماذا فعل بنفسه وأين وضعها، فإنه سبحانه توعد العصاة ممن أدمنوا وعكفوا على السيئات بالعذاب الأليم الذي لا طاقة لبشر بجزء بسيط منه.

طريق النجاة والسلامة في الدنيا أن يحاسب المرء نفسه في كل ما يفعل ويتصرف قبل أن يحاسب عليه يوم القيامة، إذ أنه بعد المحاسبة واكتشاف أوجه التقصير والخطأ يوجهه ضميره اليقظ نحو التوبة النصوح والإقلاع عما يقترفه، فإن قطار العمر يمر سريعا ولا يلتفت إلا المؤمن لتقدم محطاته، ولذا فهو يستعد لذلك اليوم المحتوم الذي يفارق فيه الدنيا.

ما يقوي الحالة الإيمانية عند الإنسان هو التفكر في هذا الكون وكيفية سيره وفق نظام متقن ومحكم لا يتخلف، فما خلق سبحانه هذا الإنسان وما حوله عبثا بل لأداء دور وظيفي يناسب خلقته، فليأخذ بأسباب القوة ونزاهة النفس والتكامل المتمثل بطاعة الرحمن وتجنب المساويء والمعاصي المستوجبة لسخطه ونقمته.