آخر تحديث: 24 / 4 / 2024م - 10:20 ص

مولاتنا الزهراء مدرسة تربوية

ورد عن عن الحسن بن علي بن أبي طالب قال: رأيت أمي فاطمة قامت في محرابها ليلة جمعتها فلم تزل راكعة ساجدة حتى اتضح عمود الصبح وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسميهم وتكثر الدعاء لهم، ولا تدعو لنفسها بشئ، فقلت لها: يا أماه لم لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟

فقالت: يا بني! الجار ثم الدار» «بحار الأنوار ج 43 ص 82».

هذا الموقف يرفدنا بمجموعة من المضامين العالية التي ينبغي التوقف عندها تفكرا وتأملا، ومن ثم استلهام العبر منها وتوظيفها كقيم تربوية واجتماعية لا فكاك عن الالتزام بها على المستوى الفردي والمحتمعي، كيف وهذه المباديء والتوجيهات نتلقاها من أهل بيت العصمة والذين هم هداة المؤمنين نحو الصراط القويم، واستعراض مثل هذه المواقف الأخلاقية تحيي النفوس وتنير جوانبها بالنزعة الإيمانية وومضة التدين الحقيقي، إذ البعض يفهم التدين بنحو خاطيء بأنه مجموعة طقوس جامدة وتقتصر على حركة الجوارح، بينما سيدة نساء العالمين تؤكد على روح الدين والعبادة وما تحمله من معان تصقل الجانب الروحي والتربوي لشخصية الإنسان، فأهم العبادات الارتباطية بين العبد وربه وهي الصلاة لا تخلو فيها مشاعر سيدة نساء العالمين من الاهتمام بآلام وحاجات المؤمنين، بل ويأتي ذلك التفاعل في أعلى درجاته الإنسانية وهو الإيثار، حيث تقدم طلب حاجات وهموم الآخرين على نفسها وأهل بيتها، وهكذا نجد أن الصلاة بنظر الزهراء مضمار وعي وتفاعل وانطلاق في فضاء العمل وتحصين النفس من زلات الأهواء والشهوات وتنزيه النفس من المشاعر السلبية.

حينما يقبل الطفل على أمه فهي مدرسته الأولى ومصدر توجيهه وتحفيزه، وشتان ما بين أن يرى أمه بحال يدعو إلى الكسل واللهو والدعوة إلى المعصية، أو يتناهى لسمعه كلمات الشتم والغيبة منها أو من أبيه، أو يجد الطفل والديه يضيعان أوقاتهما في اللهو وغيره، وبين طفل يرى من منطق والديه الكلمات الطيبة فينزهان لسانيهما عن الخنا والسوء من القول، كما يرى سلوكهما المتوافق مع القيم الدينية والمجتمعية فيدعوه ذلك للاستقامة والتعامل بالحسنى مع الغير، فالطفل مصدر تعلمه وتربيته يكون بالتقليد والمحاكاة للكلام والسلوك الذي يراه من والديه، وهذا ما يحملهما مسئولية تهذيب سلوكهما إن أرادا أن تقر العيون بطفلهما، فمن غير المنطقي أن يعيش الطفل في بيئة أسرية ملؤها المشاحنات والصراخ والإهمال والأنانية، ويكون نتاجها بعد ذلك طفلا مغايرا لتلك الأجواء تماما فيتصف بالطيب والتواضع والعطاء!!

فتربية الأبناء منطلقها تهذيب الوالدين وامتلاكهما لثقافة التعامل مع الطفل وتقديم الصورة الحسنة للشخصية القويمة المحبوبة من خلال سلوكهما، ولنا في البيت الفاطمي خير مثال من خلال هذا الموقف الذي يلقى فيه الإمام المجتبى أمه في تلك الحالة الارتباطية برب العالمين، فيرى منها هالة نورانية تحيطها بالخشوع والتذلل بين يدي المولى الجليل.

وما إن انتهت الزهراء من صلاتها التهجدية حتى بدأت في التوجه بالدعاء وطلب قضاء الحوائج، وما يلفت نظرنا إليه الإمام الحسن هو ذلك الترتيب في الدعاء حيث قدمت جيرانها والمؤمنين على نفسها وأهل بيتها، فالتحفة والهدية والعطاء الفاطمي لم يكن مقتصرا على الجانب المادي، والذي شهد به القرآن الكريم في آية الإطعام في سورة الإنسان حينما حكى عن إيثار أهل بيت النبوة للمحتاجين «المسكين، اليتيم، الأسير» على أنفسهم بتقديم طعام إفطارهم، بل كانت هناك هدية أخرى من الزهراء وهي الدعاء بظهر الغيب لعموم المؤمنين وخصوص الجيران، فهذه الحالة التجاذبية في المشاعر والإحساس بآلام وهموم الآخرين تعبر عن مظهر جلي في التدين الحقيقي، وهي تتضمن دعوة لنبذ كافة أشكال الخصومات والنزاعات المورثة للكراهيات والأحقاد وتفكك عرى المجتمع، وليس هناك من معيار يدل على نقاء القلب وخلوه من المشاعر السلبية تجاه الآخرين بسبب سوء الفهم أو الانفعال كالدعاء لهم بقضاء حوائجهم وطلب العون الإلهي ليفرج عنهم ويسهل أمورهم ويبعد عنهم كل أذى وضرر.

وهكذا نحن نحيا قيم وتوجيهات المنهج الفاطمي التربوي حينما نقفز على كل المواقف الانفعالية والخلافات خصوصا مع الجيران والأرحام، ونتجنب كل ما يكدر حالة الاستقرار والتفاعل والتعاون.