آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 4:37 ص

زوايا أسرية 21

محمد الخياط *

عطاءً نمنحه الآخرين

لها شكري... وما أنا فيه

أن كل فكرة أساسية تحتاج إلى

تحرير العقل، والتفاعل مع المحيط بها وفق القيم

والسلوكيات الإنسانية وعدم الركون إلى مالا يُحمد عقباه مستقبلاً...

في ليلة حُبست فيها الأنفاس وكأن عقارب الساعة توقفت، حضر الجميع تتقدمهم عميدة الكلية ومديرة القسم وعدد من المحاضرات والشخصيات ولفيف من العوائل والضيوف، وعين الجميع شاخصة على مجريات الحفل الذي تم الإعداد له بصورة تفوق الوصف من التحضير للقاعة والبوفيه والشهادات والدروع والهدايا وتدريب الطالبات والمتحدثات من عوائل الطالبات...

بدأ الحفل بآيات مضيئة من الذكر الحكيم، وتتالت الكلمات من الشكر والثناء على الجهود التي بُذلت من قبل الطالبات في مسيرة حياتهن خلال سنوات الدراسة، والعبارات كانت موصولة للمحاضرات والحضور معاً، بعدها تم تكريم الطالبات المتفوقات، هنا حدث أمر لم يكن متوقعاً، ولم يخطط له ولم يخطر على بال أحد.

نودي في الميكرفون بإسم الطالبة «....» مع مرتبة الشرف الأولى على مستوى الوطن، عم الصمت برهة من الزمن ثم أعادة الحديث ببكاء للفرح، ووقف الحضور يصفق دون توقف لهذا الفوز الذي لم يصله أحد خلال السنوات الماضية، هي لم تتحرك من مكانها وكأنها مذهولة لسماع ذلك الخبر، تعلم أنها من المتفوقات لكن لم يصل مستوى تفكيرها أن تصل إلى المرتبة الأولى في جميع كليات الوطن، كُرر الإسم بدموع الفرح من قبل المشرفة على الحفل، خطواتها ثقيلة يتبعها خفقان قلب، تصعد المسرح وتُكرم مع التصفيق مرة أخرى، تقترب منها مديرة الحفل وتطلب منها كلمة شكر إلى الجامعة والمحاضرات والحضور والعائلة

تقدمت إلى المنصة دون أن تكون هناك ورقة مكتوبة، سلمت ورحبت بالحضور، لكنها طلبت من عريف الحفل والحضور وقت اضافي لدقائق أخرى مبررةً ذلك هناك أمر مهماً جداً أود الحديث والبوح عنه أمام الجميع، حبست الأنفاس وعم الصمت ودب الخوف لبرهة عند المسؤولات، ماذا تود أن تقول؟

نحن في حالة فرح

هل لها ملاحظات؟

هل هناك سرٌ؟

هل لها من طلب خاص؟

أ ترغب في تكريم أهلها؟؟

لفت انتباه احدى المسؤولات وسألت مديرة الحفل أين أهلها؟ جميع الطالبات ممن ذُكرت أسمائهن صعدن أمهاتهن وكرموهن على المنصة، أين أهلها، أخواتها، زميلاتها لم يحضر أحد؟!! هذا التساؤل والإستفهام حضر في ذهن البعض عندما تصدت للحديث دون أن يكون بقربها أحد ولم تشكر أحداً من أهلها.

هنا بدأت حكايتنا التي قالت فيها.. اسمحوا لي الحضور الكريم، أعود بكم إلى سبعة عشر عاماً إلى الوراء، وأحكي لكم دراما قد عشتها بتفاصيلها السلبية والايجابية، وهي في ثلاث رسائل أو مسارات في حياتي، لعل فيها من الشكر والتقدير والعبرة والعظة للكثير ممن يشرف حفلنا هذا،،،

المسار الأول

في الثمانينات الميلادية كان عمري تسع سنوات في الصف الثالث الإبتدائي، أعيش مع أسرة متوسطة الحال، حدث أمرٌ لم أدركه كثيراً في تلك المرحلة العمرية حين كانت أمي تعاني من سوء خلق أبي، العنف والصراخ عنوان حياتنا اليومية، كان مخيفاً في سلوكه ويتغيب عن البيت كثيراً، وأمي تبرر غيابه في العمل، وحين أسأل عن أهل أمي تقول: ليس لها اخوان أو أخوات، وأمها وأبيها يعيشون في وطنهم ”أي ليس من هذا الوطن“ وبحكم ذلك أعيش الغربة مع أمي ويزداد الفقر يوماً بعد يوم، فتعمل أمي مأكولات شعبية لتبيعها على أهل الحارة التي نقطن فيها، وفي يومٍ من أيام الشتاء القارص وكأن الصورة ماثلة أمامي في هذه اللحظة التي أقف فيها أمامكم، تم طرق الباب وكانت الساعة تشير إلى قبيل صلاة المغرب، فوجئت بمن لها الفضل بعد الله وهي تجلس معنا في هذه القاعة وعيناها مغرورقة بالدموع لفرحها بي، رحبت بها في بيتنا المتواضع جداً، لكنه نظيف لنظافة أمي وطهرها وعفتها وتعففها عن مد اليد للآخرين وحسن أخلاقها وتدينها، أخبرت أمي عن الطارق.. إنها معلمتي، الأستاذة التي أحبها كثيراً، وهي مقربة لقلب العديد من الطالبات، هل تعرفينها ياأمي؟ كنت أحكي لك كثيراً عنها وعن دماثة أخلاقها وتواضعها وحبها لعمل الخير، جلست على الأريكة وهي تحمل بين يديها أكياس كثيرة، وهناك من ساعدها في انزال الهدايا لم أعلم بمحتواها، جلست وضُيفت، بعدها طلبت منا أن تكون صديقة للعائلة وهي تقول بكل ثقة: أنا بمرتبة الخالة وصديقتكم وادعوا الله أن يعينني وأو فق في تقديم كل ما تجود به يدي، حباً وكرامةً دون مناً، وطلبي الوحيد أن لا يعلم أحد بذلك، وكل نهاية شهر سأكون متواجدة هنا وفي المدرسة، أنت طالبة ومن اليوم لن أدرس المرحلة التي أنت فيها، لكني على استعداد في ما يخدم دروسك.. انتهى الحوار.

ذهول وفرح

الأم وابنتها في حالة تعجب وذهول لهذا السلوك الإنساني غير المعتاد من الكثير، خرجت المعلمة وكانت المفاجئة وكأنها تعلم حاجتهن إلى ما يخفف برودة الشتاء من ألحفةٍ ومؤنةٍ ومبلغ من المال، حضنت الأم ابنتها وهما في حالة فرح وألم واستغراب.

لماذا فعلت المعلمة ذلك؟ هل شكوت لها الحال؟ والسؤال من الأم إلى ابنتها.. لا.. لا يا أمي أقسم لك بمن تحبين وتوالين - بمحمد وآل محمد - لم أفشي سراً ولم أحدث أحد، وأنت تعلمين خُلقي وإن كنت مجروحة في هذا الأمر بأن هناك من يتصدق علينا لماذا لا أعرف؟

طويت السنون

كبرتُ وأكبرتُ المعلمة الإنسانة بمعنى الكلمة، لعطفها وحنانها وصدق مشاعرها وتواصلها وحوراها الايجابي ودماثة خلقها الرفيع، وحين أتحدث مع الآخرين عن آمالي وأحلامي، صورتها تتمثل أمامي التي كلما حاولت الدخول إلى أغوار النفس الإنسانية أجد نفسي وكأني على موعد مع الحبيب، مع من جعل حياتي لها طعماً ولوناً وراحةً، وأُسر قلبي وقلب أمي بعد أن خففت الغربة والوحدة عنا، وكانت السر الجميل لحفظي من كل ما هو مُشين، نعم كنت أجتهد في دروسي طاعةً وحباً لها.

هي من زرعت الأمل، وكبُرت التطلعات والأمنيات المستقبلية، ولم تتأخر شهراً عن دفع كل المصاريف الشخصية والمستلزمات المنزلية، بما في ذلك فاتورة الكهرباء والماء ورسوم الموصلات.

وفي مساءٍ آخر وأنا أحمل شهادة الثانوية والتفكير يعصف بي، أين سأكمل دراستي ومن سيبقى يرعى أمي وهي تكبر يوماً بعد يوم، فُوجئت بخبر هل لكم أعزائي تضعون اجابة؟

هناك من تفاعل ونسي أنه في حفل تخرج

وهناك من أخبر عريفة الحفل بأغلاق هذا الفلم

وهناك من ارتفع صوتها بقولها حديث وقصة من الخيال ليس مكانها

وهناك من صفق وصرخ أنت إنسانة مميزة

تفاجئ الجميع بأن الميكرفون وصل إلى مديرة الجامعة، وبصوت قوي ابنتي أكملي هذه الحكاية باختصار، فيها عبر نود الاستفادة منها ولك التقدير، سكت الجميع مرة أخرى وعادة تقول:

هل تعلمن ماذا فعلت المعلمة؟ إجابات من هنا وهناك بعيدة عن التصور الذي أذهل الجميع، يخرج صوت الثناء ويتسأل من تكون هذه القدوة؟ استأجرت لنا شقة في منطقة الدراسة وتم الاتفاق على تواجدنا كل نهاية شهر في المنطقة، ومتى ما أحببنا العودة إلى منزلنا فهي مرحبة بنا،هل بعد هذا الفعل هناك أمر آخر؟ نعم لم تنتهي حكايتنا،،

المسار الثاني لحكايتنا

هذه التجربة لم تكن لشخصية تبحث عن حب لحضن مفقود، أو أسرة لتعويض عن نقص تعيشه، أو لتتفاخر أمام الملأ بما تعطي، بل هي ميسورة الحال، ولها من الأبناء والبنات وإن لم أتعرف عليهم إلى اليوم، هل تعلمون لماذا؟! علما أنني طرحت التساؤل في صغري عليها لكنها أجابت بكلمات مختصرة بقولها: لا أحد يعلم بعلاقتي بكن إلا زوجي والسائق الذي يحمل معي الأشياء فقط.

مشاعر النبل والأخلاق التي إلى اليوم يُحار ذهني عن صياغة عمق الشعور ازاء موقفها، الذي جعل حياتي تنبض فيها دوافع الصبر والإيمان بقضاء الله وقدره، والعزوف عن التذمر والحفاظ على صيانة الجسد والنفس والالتزام بالمثل العليا، ووضع الأمور في موازينها، لهذا كان نهوضي للإلهام والدعم المتصل من قبل المعلمة التي سكنت أعماق نفسي، فصاغت أهدافاً وآمالاً وأسمى دلائل روح العطاء والوفاء والصدق في القول والفعل، وأزالت كل ما ينافي الضلال والجهل، وزرعت الاهتمام بالقيم والكرامة والحب والعطاء وبالمستوى التعليمي والتفوق.

لها شكري... وما أنا فيه!!

يتغنى المرء على دين خليله، لكني أدعو لها في كل صلاة وأنشد لها القصيد بنبل وصفاء القلب والاحساس والمشاعر الملهمة للتعبير المباشر والموضوعية لتجربتي الذاتية، دون مزاوجتها بالخيالات والغرور والتفاخر، فقد عانيت مع أمي في مرحلة الطفولة فضاء ًوفراغاً عاطفياً، كنت أخاف في حديثي أو اثناء تواجدي في المدرسة أن يُذكر اسم والدي الذي لازالت صورته وهو يزأر ويصرخ ويضرب ويسرق أمي وأنا أخاف وأبكي حتى يخرج من المنزل، ويعود في كثير من الأوقات بعد شهور لم أعي بأنه ممن أدمنوا السفر إلى سوء المنقلب والحياة المشبوهة إلا بعد إن كبرتُ.

ليس لها وجود

وصل ببعض الحضور إلى مستوى من يزف عبارات الثناء والتقدير ويكبُر مثل هذا العمل الإنساني، وهناك من يجفف دموعه، وهناك من يستنكر ويحسب ذلك من الخيال ويطرح تساؤلاً، يحمل من الريبة الكثير وهو يقول:

أين هي تلك المعلمة لم تذكر اسمها؟

لماذا لم تصعد والدتها إلى المسرح؟

هناك من صوتها ارتفع في القاعة، فأثار الجميع وعم الصمت لبرهة وهم يبحثون من هي المتحدثة بهذا الصوت المخنوق بالبكاء؟ وهي تقول:

ابنتي كبرتِ في عين أمك...

ابنتي تقول الحق وأصبح هناك دين علينا لمن يحتاج دعمنا

ابنتي غايتها إنسانية في طرح قضيتها وليس مسلاة يولع بها النساء...

هي قضية اجتماعية ودعوة للتلاحم والتعاون والاصلاح المجتمعي، ومناداة ضد الظلم والعنف الأسري والزوجي والمجتمعي، الذي يعد من القضايا الخطيرة للآثار السلوكية والنفسية والاقتصادية، مما يستلزم التكاتف لعلاج مثل هذه الظواهر التي تمثل عمق في اصلاح المجتمعات، مبنياً على الاعتقاد العميق في الإقرار بالعدالة الاجتماعية والمساهمة في انتشال البؤس والنهوض بالطبقات الفقيرة، ودعمها في التعليم وانتشالها بسداد حاجاتها الإنسانية من توفير الأمان النفسي والأسري والحاجة إلى التعليم والطعام والصحة وحفظ الكرامة.

ابنتي مَن تتحدثين عنها خرجت من القاعة وطلبت مني عدم ذكر أسمها، وتركت رسالة لك خاصة تقرئينها بمفردك، وأخرى للحضور،،

هنا انتهى المقام بعد تدخل أمها بصوتها المبحوح وكبر سنها، وقفت في مكانها وهي تكرر لقد أُميط اللثام عن التاريخ وحياتنا الخاصة، فشكراً لله والثناء عليه، ولكل من ساندك وادعو الجميع للعطاء والتعاون ونشر التلاحم والألفة والمحبة بينهم، فقد حُرم الكثير من الناس مما سخره الله لك وعوضك بالحب، وسخر من يساندك اتجاه قسوة مسيرة الحياة برفع شأنك، لدماثة أخلاقها وما يؤلمها ويضيق صدرها اليوم أنك ستعينين في مكان بعيد وهي ستسافر مع إحدى بناتها لزمن طويل لتكمل رسالة العطاء والبناء،،

الرسالة الخاصة من شطرين تقول فيها:

اولاً: ابنتي أصبحتِ تدركين المثل العليا والسلوك الإنساني والتحديات والقسوة والاخفاق أحياناً، فالنفس يعتريها بين الحين والآخر وهنٌ وضعفٌ، فسِيري وفق ما يقتضي الحال بدماثة خلقك وايمانك وكرامتك، وضعي الأمور في موازينها بالعمل الجاد والجهد والتفكير والاستشارة لكشف ومحاربة كل ما هو جمود والداعي لإلغاء دور العقل في دقة الاختيار بين أمرين وفق المعايير الموضوعية، وأنتِ اليوم بعد أن وُفقتين إلى هذا المنصب أصبحت امرأة ناضجة التفكير يثق بك كل من يقترب منك، مفتخرين بترشيحك امرأة تمثل الوطن لعلمها ولدماثة خلقها وعفتها وشرفها وصدقها وأمانتها، وما وصلتين إليه هو نتاج جهدك وايمانك وثقتك بنفسك والحفظ الرباني ووقوف أمك إلى جانبك، وما أنا يا ابنتي إلا سبب هداني الباري للتوفيق في رفع ما كنتم عليه، وكل رجائي منك مرة أخرى عدم ذكر إسمي في مسرح الحياة التي تصارعينها طوال مسيرتك فيها، ”ربي يحفظك من كل سوء“.

ثانيا: ابنتي تحدثنا طوال السنوات الماضية عن الكثير، وليس المقام يسمح بسرد السنوات الجميلة التي كأنها بالأمس القريب، نتسامر فيها بآلامها وأحلامها في ليلها ونهارها، وأنتِ تسيرين بخطى الواثقة من نفسها، متحديةً ما هو معيق للوصول للمبتغى والطموح، لم تقفك الإسقاطات والحواجز والميول للانغلاق على النفس والخوف من الفوارق الاجتماعية، وإن كنا ندين إلى أحد آخر فهي الأخصائية النفسية، التي شخصت ووضعت الكثير من البرامج الفردية والجمعية ضمن ضوابط تؤطر الأمور بموضوعية وبمبادئ، لتجنب الخلاف والاحساس بالغبن لسمعة والدك وما كان يمارس من تنمر وعنف وسوء خلق والميل نحو كل ما هو مُشين، الذي أسس تجادل بين الناس، وفي بعض الأحيان كنتِ تشعرين بالغبن إلا أن عزيمتك ووقوف أمك وتميز الأخصائية بوضعها لكل أمر منهج منظم ومنطقي يحاكي الواقع وضمن الامكانية الز مكانية، وها أنا ذا أشهد ما وصلت إليه، وإن كان هناك رسالة أخرى أخبرك بها مستقبلاً حين تدركين القسم الآخر من مسيرة الحياة التي تخبرنا عن ضحاياها وسعدائها، فقرائها وأغنيائها ومجرميها والمظلومين فيها، والمتأثرين بها والمؤثرين فيها، مرضاها وأصحائها، وهناك ضحايا لنُظم وموروثات مجتمعية لوجود آثار وتأثيرها المباشر على المرأة بوجه خاص، لتصويرهم أنها الشر ذات الطابع العاطفي المشبوه، مفتخرين بقلب الحقائق، مدافعين عن آرائهم، مستندين ومبررين في كثير من الاحيان بدعواهم أنهم مصلحون ومدافعون عن المرأة بنظم وأعراف إسلامية تجهلها المرأة وعامة الناس، وهم من يدعون إلى مشروعيتها وكسوتها ورفع كاهل الظلم عنها، باعتبارهم الهادين والأوصياء على الدين والناس وبيدهم مفاتيح الطريق المستقيم.

هذه الأفكار كانت هي احدى مخاوفك في مسيرتي معك، والاتهام كان دائما موجهاً للرجل، منتقدةً ومعتقدةً الجميع في ذات المركب من الأفكار والتصورات القاتلة لمعنى الحياة والسالبين كل حقوق المرأة،

هنا لابد وأن أشير لك في نهاية هذه الرسالة إلى:

  • سأغادر خلال الشهور القادمة مرافقةً مع احدى بناتي للدراسة، وادعو الباري أن توفقين في مسيرتك الحياتية والمهنية، وإن شاء الله أو فق بحضور زواجك، وتجاهلين العبارات السلبية التي تكررينها عن الرجل، فليس كل الرجال هم من صنف والدك، فهل زوجي الذي تنادينه عمي منذ سبعة عشر عاماً إلى اليوم، أليس هو رجل وليس من صنف أبيك؟
  •  ابنتي إننا نختلف في كثير من الملامح الشكلية، كما أننا نختلف في مستوى التفكير ونحن نساء أليس كذلك؟ لوجود آفات ومشاكل مادية وأسرية، والشعور بتقييد جزءاً من الحرية الشخصية، والخوف من طبيعة الرجل لوجود ترسبات نفسية سلوكية سابقة ظهرت على الأب مما أثر على الشعور بالأمان والاستقرار، ومرجعية ذلك كما تحدثنا في الجلسات الخاصة مع الأخصائية النفسية يعود سلوك الأب إلى عامل تربوي نفسي بيئي، وسوء اختيار الزوجة له غالباً مما يوقعها في ما لا يُحمد عقباه،

وممكن نختلف في غير القيم والمبادئ الأساسية كثيراً، لكن لا يعني ذلك مدعاة للنفور، والزهد فيما شرّع الباري في دعوة الزواج والتكاثر واعمار الأرض والسكينة والطمأنينة، واحراز نصف الدين عبر ميثاق غليظ متعلق بذات الإنسان وبعرضه وشرفه وكرامته قال تعالى:﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ َمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۖ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [1] “ وفي قولة تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [2] 

الرسالة الثانية للحضور في مسرح الحياة

لتشريح هذه الدراما وما يجب أن ندركه من ملاحظات في المحطات التي مرت بها المرأة وابنتها، مع التقدم الكبير في المعرفة والانفتاح والقدرة على التواصل والاتصال بالثقافات والعوالم الأخرى.

لازال موضوع العلاقات الزوجية الأسرية يعتبرها البعض هي مجرد تحضيرات عمرية وظيفية، مادية سكنية واشباع لغريزة البقاء عبر الانجاب.

نعم هذه النقاط حتمية يدركها كل البشر بفطرتهم ومقتضيات الحياة، لكن هناك نقاط أخرى تحتاج أن تؤخذ بعين الاعتبار إلى جانب الشجاعة والمثابرة واستحداث الوسيلة المثلى للصمود، ومجارات التحديات والصراع المستمر على مسرح الحياة ومتطلباتها لتحقيق الأهداف والتطلعات، ولا يتأتى ذلك إلا ب

 حسن الإختيار، وأمك لم تمتلك ذلك

اختلاف البيئات والفوارق السلوكية والمجتمعية

حرية القبول من عدمه لكل منهما للآخر، لإدراك أن هناك مساحة مسموح بها، تزيد وتنقص من مجتمع إلى آخر في طريقة الإختيار، وإن كنا أفردنا لذلك مقالاً منفصلاً من السابق ضمن هذه السلسلة تحت عنوان «زوايا أسرية ”8“»

 حرية اتخاد القرار

حين اصرار الأب على ممارسة السلوك المُشين والرغبات الزائلة التي يتبعها عقاب من رب العباد والرفض المجتمعي له، أمات الالتزام بقيمة العلاقة الزوجية وأصبحت المسافة أكبر بمراحل مما كانت عليه في السنوات الأولى للزواج، لذلك لم تقبل الأم المراضاة والوعود الزائفة والوساطات غير الحكيمة ولن تعود كسابق عهدها وإن كان الاصرار على الانفصال يكون في دائرة حرية اتخاد القرار وإن كان هناك صوتاً خفياً يفيض ألماً وحزناً وخوفاً في ذات الوقت يقول لها: ”ما من شيء أحله الله، أبغض إليه من الطلاق[3]  فتصرفي بحكمة وترجميها على الواقع بدافع الحفاظ على ما بقي من كرامة، واعملي على تربية البنت في بيئة صالحة بعيداً عن سلوك الأب هذا ما كان عليك فعله منذ زمن بعيد.

 الثقة بالنفس

انهضي وانفضي غبار الماضي، وعيشي بعيداً عن الحكايات التي عاشتها أمك، وارسمي مساراً بتعزيز ثقتك بنفسك، واصعدي سفينة الحياة من جديد، وحين تأوين إلى بر الأمان مع رجلٍ صالح، أبدئي في صياغة حياتك، وكوني كالأرض الصالحة لزراعة الثمر واعمار الحياة بالصالحين مثلك، وسيفتخر بك من هو ساقٍ للأرض بماء الطهر والعفة والصدق والعطاء والوفاء والنماء وفق قدرة ربانية وفطرة إنسانية وحاجة جسدية ونفسية، حينها ستدب الحياة في نفسك وستستفيدين من الدروس التي مرت بحياتك وتجربة أمك، وسيسري بداخلك أنهار لا تنضب ولا تتعب مُتدفقة دئماً بالكثير من الحب والشعور بالأمان والطمأنينة القلبية، فلن تهزمك الظروف وقسوة الحياة ووطأة المجتمع.

التعقل وفق المواقف

تذكري أن كل فكرة أساسية تحتاج إلى تحرير العقل، والتفاعل مع المحيط بها وفق القيم والسلوكيات الإنسانية، وعدم الركون إلى مالا يُحمد عقباه مستقبلاً، من جمودٍ وخوفٍ وهمي من مجريات الأحداث والأحاديث والعوائق ذات البُعد الاجتماعي والنفسي، الذي يرمز إلى صنوف الوعي في صوره وضمائره النفعية والمتضاربة بين الزوجين.

لتلافي الأخطاء

لا تنحصر الأخطاء الجسيمة المستقبلية غير المبررة في بُعدها الديني والاجتماعي والاقتصادي والنفسي والحاجة الفطرية الجسدية من عدم القبول بالزواج والانخراط في المحيط المجتمعي، إنما ستعيشين الغُربة واهانة النفس واغفال مبدأ الكرامة والسكوت على التنمر والعنف وسوء الخلق، إن لم تكوني مؤمنة بقدراتك في مواجهة الصعوبات، وأنك قادرة على الانتقال إلى مرحلة أعلى مما وصلت إليه مع وجود التحديات وعبء المسؤولية وتفكك كل القيود والعيش بوعي رغم الجروح، فافتحي للخير أبواباً، وضعي مرهماً وقناعاً للجروح وإن كانت دامية، وادركي إن كل هماً سينجلي ولو بعد حين، وستشرق الشمس من جديد لتصلح مسيرة الحياة المسمومة بنقاء ضميرك وحرصك على المبادئ والبُعد عن آفات المجتمع السلبية.

ويعود السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح، ما هي رسالتها التي ألقت بظلالها على الحضور؟

1/لم يكن الأمر متعلقاً فقط بطرح قضيتها الشخصية ودور وشكر المساندين لها، إنما التأكيد على أهمية توجيه المجتمع نحو التكامل والتكافل في العطاء والاهتمام بالآخرين ورفع الظلم عن المرأة التي لازالت في كثير من القضايا تحت رحمة الزوج بإسم القوامة،

لهذا السبب ولتكرار الخلافات المتشابه، فمن الحكمة تسليط الضوء لمعالجة الأشخاص الذين يعانون من مشاكل تتراوح بين عنف وادمان واضطرابات نفسية وسلوكية وأخلاقية ومقاومة ذلك بالإصرار الذي يحتاج إلى جهات متخصصة تتجاوز قدرات ومؤهلات صاحب القريحة، وإن كنا نفترض حسن النية فيمن يسعى لإصلاح الأمر من المقربين.

2/ كفاح ومسيرة أمها والصراع الذي عاشته في الغربة مع زوج عديم الاحساس بعيداً عن الأخلاق.

3/ صراعها مع الحياة وتوجيه الرأفة والرحمة والمسؤولية المجتمعية اتجاه العوائل المتعففة وغير معروفة.

4/ التبني الجاد والدعم النفسي والمالي، مما يخلق مجتمع متلاحم ويحد من الانحرافات الأخلاقية والأمنية والخلافات الأسرية والمجتمعية ويرفع من مستوى الصحة الجسدية والنفسية والعلمية والاقتصادية.

كانت تبحث عن فتح مساحة تنفث فيها ألم السنين، وتشكر كل من وقف مسانداً لها وترأف بحال أمها، وتُهيبُ بصبرها، وتدعو المجتمع للتلاحم أكثر، فهناك المئات مثلها يحتجن لمن يأخذ بأيدهن إلى الطريق ليحد من شدة المشاعر السلبية، وخلق أفكار متنوعة متنورة، وإثارة التفكير في زرع مهارات ادارة الصراع الزوجي، والبحث في حسن اختيار شريك الحياة، والسعي الجاد لإدارة بناء النفس، وعدم اليأس رغم التحديات والثقة بالله بأن مع العسر يسرى.

هذا ما أسس عندنا السعي في سرد هذه الدراما، لوضع خطوط تُثير القارئ وتُنير الطريق على أن الصراع الزوجي والاضطرابات النفسية والسلوكية تحتاج إلى من يتصدى لها، ويرفع الصوت عالياً: إن في ضياع الأسرة ضياع للأبناء والمجتمع، لذلك نحتاج التأكيد على أهمية:

التفكير الواعي في اتخاذ القرار

اطرح قضيتك وأسعى لتقديمها بآلية واضحة

طرح التساؤل بطريقة الاستيضاح لتفهم أكثر

الإدلاء بالأفكار وتقديمها بأسلوب ومشاعر صادقة

حسن الانصات وفهم ما يقوله الطرف الآخر

التوقف عن سرعة الحكم على الآخرين

ضع فرضيات لتفادي الدخول في خلافات لا طائلة منها.

ولحكايتنا عنوان آخر

يحرز من يحمل ويشعر بأهمية التلاحم والعطاء والتحفيز والتغيير، وتحويل مجموعة عناوين السخط والبؤس والألم والخوف والنقد والتعامل السلبي إلى مجموعة تغذية صادقة وبناءة في تعزيز الثقة بالنفس وخلق مناخات لبناء الشخصية السوية، لتغيير الحالة السائدة عند الكثير، وإن لم تكن واثقاً بقدراتك أو كنت بين أمرين عليك الرجوع للمختصين بالمشورة في الأمور التي لا غنى عنها، لتضاعف حصيلة مهاراتك وتحقيق بيئة يسودها الحوار والتواصل المفتوح المبني على الثقة والإحترام والمودة وحرية الإختيار بضبط النفس وإظهار الإمتنان لمن عنوانهم العطاء والتسامح والصدق والوفاء.

السؤال المتكرر...

لمعالجة هذه الدراما نحتاج الكثير من الاجابات وحل المشكلات الأسرية «التفكك الأسري، الخلافات الزوجية، التربوية، الاقتصادية، الحقوقية ومهارات اتخاد القرار... ولمن أتجه وألجأ؟» مع علمنا أن المشتركات الإنسانية كثيرة والجميع يحتاج إلى الكثير من الخبرات والإستفادة من التجارب الواقعية خصوصا المتوافقة زمكانيةً وقيماً وديناً

وأخيراً هل عندنا عنوان أو تعليق لامرأة العطاء التي تبنت هذه الطالبة وأمها على مدى سبعة عشر عاماً وغيرهن ممن لا نعرفهم؟

ولنا معكم موعداً آخر في زوايا أسرية ”22“

[1] . سورة الأحزاب آية ”7“

[2] . سورة الروم آية ”21“

[3] . وسائل الشيعة ج 15، ص266، ح1
كاتب سعودي ومدرب في شؤون الأسرة