آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:57 ص

التنبيه من الأخطار صناعة قرآنية للشخصية المتكاملة

قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ … الحج الآية 2.

الآية الكريمة تأتي في سياق إفاقة الإنسان من الغيبوبة الفكرية والتبلد الحسي تجاه الدور الوظيفي له في الحياة وما يتلوها من محاسبة وجزاء في يوم القيامة، فإن الانشغال بالملذات وتحصيلها يصيب الإنسان بالغفلة واستسهال ما يواجهه في ذلك اليوم العصيب، مما لا فسحة فيه للتداعي والتراخي والإهمال فإن ذلك سيوقعه فيما لا ينفع معه الندم، وتحرك الآية الكريمة العقول نحو الوعي والاستيعاب من خلال إلفات النظر إلى مشهد مستقبلي ولكنه آت لا محالة، وذلك أن الإنسان الأريب لا يغفل ذهنه عن ترتيب أوراقه المستقبلية بغية نيل مكانة تليق به، فيعمل جاهدا من خلال التخطيط المحكم والعمل الجاد لتحقيق أهدافه وطموحاته الدنيوية، وهذا أمر حسن ومن علامات النجاح والسعادة ولكن عليه إبداء اهتماما أكبر بالمستقبل الخالد الذي لا يزول ولا يضمحل وهو المستقبل الأخروي، فالعاقل لا يبني في بيت مستأجر لفترة ويرحل عنه، بل يبني لمستقره فيحول الوحدات الزمنية لعمره إلى محطات عمل ومثابرة وفعل الخيرات ليلقى أحسن وأرقى الدرجات، وذلك يعتمد على همته العالية في الترقي في درجات التكامل النفسي والأخلاقي والاجتماعي، ومما يشحذ الإرادة هو تكوين الوعي العقلي بالصورة المستقبلية للدار الباقية وأين سيجد نفسه فيها حينئذ، والآية الكريمة تخلق وتبني هذا الوعي من خلال إلقاء الضوء بصورة واضحة لا لبس فيها عن ذلك المآل والملفى.

وقد يقول قائل بأن أسلوب الترهيب والتخويف يندرج في إطار صنع ضغط نفسي على الإنسان فيعيش أسير تلك الهواجس من الصورة المرعبة ليوم القيامة، وهذا ما يخالف أبسط المبادئ وهي تمتع الفرد بهدوء النفس والثقة بها والبعد عن كل عوامل الضغط النفسي.

وهذا الكلام لا غبار عليه ولكن تطبيقه على إيضاح صور الخطر المقبلة على الإنسان وأخذها نحو الحكم المصادر أمر خاطئ، فإن من أبسط المبادئ التوجيهية والقيمية هي توجيه النصح والنقد البناء للمرء بغية إرشاده للسلوك القويم والأخذ بيده من الوقوع في براثن الاشتباهات الفكرية والأخطاء السلوكية، وما سن الأنظمة التربوية والصحية والاجتماعية إلا لغرض ضمانة سلامة الفرد والمجتمع من الوقوع في التصرفات الخاطئة التي تضر به ويجني بها على نفسه، ولا شك فإن تقصير الفرد في حق نفسه في تحصيله الدراسي وتدني مستواه يحتاج إلى توصيات تعليمية تقدمها له الأسرة والمدرسة، ومنها الإشارة إلى الإرشادات والتوصيات الصحية التي تحافظ على جسمه سليما من الأسقام والآفات، ومثلها التوجيهات والآداب الاجتماعية التي تؤسس لعلاقات مستقرة وراسخة بعيدا عن التشنجات والتوترات، فحينما تقدم في مقاطع مرئية ورسوم متحركة بغية وصول المستهدفين إلى الالتزام بتلك التعاليم فإنه عين الصواب، كذلك من الأساليب القرآنية في تعريف المرء بالطريق المستقيم المنجي له من تبعات وجزاء اقتراف الخطايا والعيوب يندرج في إطار التوعية الروحية والسلوكية، من خلال أسلوب بياني تصويري لمشاهد أهوال وعقبات يوم القيامة من خلال استحضار مشاهد حياتية ملموسة، لا يمكن للناس أن يتصوروا أن تحدث من التبدلات والعوامل التي تغيرها وتفقد وجودها، فمثلا العاطفة الجياشة والحنان والرقة لها مضرب مثل وهو شدة تعلق الأم بولدها، فتلك العاطفة الصادقة لا يشوبها أدنى تعلق بشيء من المصالح، بل تنطوي على صدق المشاعر النابعة من غريزة الأمومة والتي من خلالها تبذل الأم كل جهدها ووقتها في سبيل توفير الراحة لابنها، ومنها الاهتمام بتغذيته اللازمة لنمو بدنه من خلال الرضاعة الطبيعية، والتي لا تمده بالغذاء المادي فقط بل هو غذاء عاطفي يمد الرضيع بالحنان الدافئ، وعبرت الآية الكريمة عن الأم بالمرضعة بإضافة التاء للدلالة على الرضاعة الفعلية من خلال ثدي الأم لا شأنيتها، فذلك أبلغ في الصورة حيث في الحياة الدنيا لا يوجد أمر مهول ولا ظروف قاسية يمكنها أن تصرف الأم عن إرضاع ابنها، ولكن أهوال وشدائد يوم القيامة تحدث زلزالا رهيبا في مجريات الأحوال الدنيوية فحتى المسلمات من الأمور تتبدل، وهذا ما يوجب علينا أخذ أمر الاستعداد والتهيؤ للقاء الله عز وجل على محمل الجد والمسئولية والالتزام.

 

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
ابو علي
24 / 1 / 2022م - 11:56 ص
اضافة لما تفضل به السيد الفاضل، قوله تعالى (ولا تنس نصيبك من الدنيا) سورة القصص، و هو ان السعي في الحياة الدنيا بما يرضي الله يثاب عليه المرء في الاخرة و ايضا يبارك فيه الله تعالى في الدنيا فيزداد الثواب طالما بقى اثر العمل في مصلحة الناس.