آخر تحديث: 28 / 4 / 2024م - 8:07 م

من معركة الحرية إلى معارك العدل الاجتماعي

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

في عام 1789 شهدت العاصمة الفرنسية باريس، بعد حرب السنوات السبع، التي أغرقت البلاد في الديون، والامتيازات التي يتمتع بها رجال الدين والطبقة الأولغارشية، اندلاع الثورة الفرنسية، حاملة شعارات الحرية والإخاء والمساواة، وإلغاء الإقطاع. واكتملت مرحلتها الأولى، عام 1799، بإعلان الجمهورية، وانتقال فرنسا إلى عهد التوسع والاستعمار. وتعتبر هذه الثورة، الأكثر شهرة ودموية في التاريخ.

لقد كانت تلك الثورة، رغم الأهداف المعلنة النبيلة، تعبيراً عن صعود أرباب المال ورجال الصناعة، للذروة، في صناعة القرارات السياسية، والسيطرة على الحكم. غابت عنها شعارات العدل الاجتماعي، ولم تسهم في تضييق شقة الفروقات بين الغنى والفقر. ولذلك كان لتلك الأحداث الدراماتيكية، ما بعدها من أحداث سجلها التاريخ، وظل العنف، والصراعات الدموية طابعاً ملازماً لها.

كومونة باريس عام 1871، وما يطلق عليها بالثورة الفرنسية الرابعة، هي الأبرز بين الأحداث التي جرت في فرنسا احتجاجاً على الظلم الاجتماعي، وقد جاءت إثر حركة احتجاجية واسعة، تمكنت من السيطرة على العاصمة باريس، وأدارت الحكم فيها لفترة قصيرة تمتد من 18 مارس/ آذار، حتى 28 مايو/ أيار.

ويعتبر اليساريون كومونة باريس أول سلطة اشتراكية في التاريخ. وكان للمرأة الفرنسية حضور واضح في أحداثها.

الحدث الآخر، الشهير، ومصدره هذه المرة، هو الحركة الطلابية، وجاء بعد أقل من قرن من الزمن، على كومونة باريس. وبدأت مؤشراته عام 1966، حين أصدر عدد من طلبة، جامعة ستراسبورغ بياناً بعنوان «حول البؤس الطلابي»، تضمن نقداً جذرياً للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في فرنسا وأوروبا، معلنين تأثرهم بأفكار الفيلسوف الألماني المقيم في أمريكا، هيوبرت ماركوز، وبشكل أكثر تحديداً، كتابه «الإنسان ذو البعد الواحد»، الذي ينتقد فيه التكنولوجيا الحديثة، وما نتج عنها من إنعاش النزعة الاستهلاكية، وشيوع القلق.

لم يستغرق الأمر وقتاً طويلاً، بالحركة الطلابية، حتى تطورت الأمور نحو الأسوأ. ففي مارس آذار/ مارس، عام 1968اتسعت تظاهرات الفرنسيين، المنددة بالحرب الأمريكية في الهند الصينية. وقوبلت تلك التظاهرات بعنف شديد من الشرطة، ما أدى إلى تدهور الأوضاع الأمنية وخروجها عن السيطرة، لتعمّ معظم الجامعات، والمدارس في البلاد، وانضم إليها العمال، حيث بدأ 11 مليون عامل إضراباً شاملاً عن العمل، اعتبر هو الأقوى في التاريخ الفرنسي. وقد شارك في تلك التظاهرات عدد من المفكرين، في طليعتهم جان بول سارتر، وسيمون دو بوفوار.

وليس بعيداً عنا، حركة السترات الصفراء، التي بدأت في شهر مايو/ أيار عام 2018، واستمرت في التصاعد، بحلول نوفمبر/ تشرين الثاني، من العام نفسه. وقد جاءت هذه الحركة احتجاجاً على ارتفاع أسعار الوقود، وتكاليف المعيشة. ثم توسعت مطالب الحركة لتشمل إسقاط الإصلاحات الضريبية التي سنّتها الحكومة، لما تلحقه من ضرر بالطبقات الفقيرة. ولكونها من وجهة نظر الحركة، تجعل الأغنياء أكثر غنى، والفقراء أكثر فقراً.

وفي الشهور المنصرمة، بدأت حركة احتجاجات واسعة، لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا، احتجاجاً على تمديد سنّ التقاعد، حتى الأربعة وستين عاماً، لتضيف زخماً آخر، لتراكم الحركات الاحتجاجية، التي تلخصت جميع مطالبها في تحقيق العدل الاجتماعي.

والحركة الاحتجاجية الواسعة، التي تجري الآن احتجاجاً على مقتل الشاب نائل المرزوقي، من أصول جزائرية، على يد الشرطة الفرنسية، والتي اتسمت بالعنف وتخريب الممتلكات، والمستمرة حتى هذه اللحظة، لا تخرج عن سياق الحركات الاحتجاجية الأخرى، التي أشرنا إليها. فهي من وجهة نظر الكثيرين، تعبيراً عن بنية عنصرية، لمؤسسات الدولة، تطال المهاجرين من أصول مغاربية، وإفريقية، والذين يقدر تعدادهم بسبعة ملايين شخص. ولم تكن هذه الحادثة هي الأولى من نوعها، وإن كانت هي الأكثر حضوراً، بسبب انتشار مقطع فيديو يسجل لحظة الحدث على مواقع التواصل الاجتماعي.

حتى هذه اللحظة، تعيش المدن الفرنسية حالة غير مسبوقة من عدم الاستقرار، وانعدام الأمن، وحركة احتجاجية اتسمت بالعنف، لا تزال مستمرة.

وستظل فرنسا، تعاني غياب التوازن بين ممارسة الحرية السياسية، من جهة، والعنصرية وفقدان العدل الاجتماعي، من جهة أخرى. وهو غياب لا تنفرد به فرنسا وحدها، ولكنه غياب يطبع القارة الأوروبية، باستثناءات قليلة. وما لم يجر العمل بشكل حثيث، على معالجة هذه المعضلة، فإن القارة ستظل باستمرار عرضة لاشتعال الدفين، من الغضب وبروزه في شكل حركات احتجاجية وعنفية، في متواليات ليس لها نهاية.