آخر تحديث: 27 / 4 / 2024م - 10:56 ص

«الغريب» في باريس...!

ميرزا الخويلدي * صحيفة الشرق الأوسط

في ذروة الاحتجاجات التي أشعلت باريس وما جاورها بعد مقتل الفتى «نائل»، على يد شرطي، دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الآباء إلى «التحلي بالمسؤولية» إزاء أطفالهم، حيث إن «ثلث المعتقلين هم من الشباب، وبعضهم صغار جداً»، وتابع يقول: «تقع على عاتق الوالدين مسؤولية إبقائهم في المنزل... الجمهورية ليست مكلفة أن تحل محلهم».

تبعه أيضاً وزير الداخلية الفرنسي، جيرالد دارمانان، هو الآخر دعا الآباء إلى «إبقاء الأطفال في المنازل» بعد توقيف قاصرين خلال أعمال الشغب التي تشهدها البلاد.

السمعة المخملية التي تتمتع بها فرنسا تجعلها محصنة عن النقد، ولذلك يمكنها أن تدحرج المسؤولية في الاتجاه الخاطئ. يمكنها أن تحمّل أسرة المهاجرين المسؤولية، دون الاكتراث بأن هذه الأسر تعرضت قبل أيضاً للتهميش والقهر الثقافي والإذلال الاجتماعي، وأنتجت جيلاً مكسوراً يشعر بالغربة والعزلة في البلاد التي تحوّلت إلى وطن بالنسبة إليه.

الصراع في فرنسا الذي يتكرر كلما قدحت شرارة في كومة الهويات المقهورة، ليس صراع أجيال، كالذي قرأناه مثلاً في الأدب الروسي، كما في رواية «الآباء والبنون» لإيفان تورغينيف «نشرت عام 1862»، حيث ينفجر الصراع نتيجة التباعد الفكري بين الآباء والأبناء، كل طرف ينتمي إلى عالم مختلف.

هو أشبه ب «ثورة المهّمشين»! بل إن هيئة حقوقية تابعة للأمم المتحدة حثّت فرنسا على معالجة «المشكلات العميقة للعنصرية والتمييز العنصري» داخل وكالات إنفاذ القانون. بدل معالجة المشكلات العويصة التي تواجه الجمهورية، وأهمها تراثها العميق في الاستعمار والتصالح مع تاريخها، يستغيث السيد ماكرون بالآباء والأمهات لكي ينقذوه من الحرائق التي تطوق عاصمة «الحداثة والتنوير»، لكن الآباء أنفسهم يعانون.

فرنسا إذن تلتفت للعائلة! حسناً، ماذا بقي في يد الآباء من أدوات بعدما جرى تجريدهم من روح العائلة، وقوة الثقافة المكونة للعادات والتقاليد والأنماط القيمية والأخلاقية التي تؤسس لمسؤولية الفرد تجاه الأسرة والمجتمع. لا أن تزرع فيه الأنانية بدعوى الفردانية، والتمرد بدعوى التحرر، والعقوق للمجتمع بدعوى الحرية.

صحيح أن الحداثة الأوروبية أعطت قيمة للفرد وحريته، لكنها أيضاً جردّت الليبرالية في شكلها «الإمبريالي» الآباء والأمهات - وهما النواة الأولى للمجتمع - من حقّ الرعاية الفكرية والثقافية للأبناء. أصبحت العولمة الثقافية إحدى أدوات التغيير للمجتمعات وتذويب الهويات الثقافية وتهميشها، واقتحام البيوت «من دون استئذان» عبر شبكات الإعلام والميديا والاتصال، للتأثير على الأبناء وإعادة صياغة أفكارهم وسلوكهم تبعاً لمنظومة أكبر، تُعنى أولاً بتهميش وتفتيت الخصوصيات الثقافية للأفراد والمجتمعات، وصياغتهم في قوالب متشابهة، وتنميط العالم على شكل واحد، يتخذ من النموذج الغربي الليبرالي مثالاً وحيداً له. يتم استخدام العولمة لطمس الهويات الثقافية لغرض الهيمنة وتحويل المجتمعات إلى سوق للاستهلاك والاستلحاق الثقافي والاستتباع السياسي.

كانوا يطالبون بالحدّ من تأثير التقاليد القديمة على سلوك الأبناء، ويرون أن ثقافة الآباء معيق لاندماج الأبناء في الحداثة، لكنهم منحوا أنفسهم الحقّ في الوصول إلى عقول الأطفال دون سنّ الرشد لإعادة صياغتها وتوجيهها والتأثير فيها. وشجعوا الصغار على التمرد على نظام الأسرة، متجاهلين أن الثقافة ليست عادات قديمة، هي الوعي الفكري والروحي والأخلاقي الذي ينشأ عليه الإنسان صغيراً، أما مساره الفكري فيقرره حين يمكنه أن يكوّن وعياً مستقلاً عن تأثير الآخرين.

ما يشعر به سكان الضواحي من أبناء المهاجرين في فرنسا هو ذاته الذي عبّر عنه الأديب والفيلسوف الفرنسي ألبير كامو في رواية «الغريب»، التي تدور أحداثها في الجزائر، هناك كان ألبير، يشعر بغربته وعدم قدرته على الاندماج، وهو الفرنسي الذي يملك القوة القاهرة، وليس الجزائري المقهور في فرنسا، هناك يصوّر كامو غربته حيث «الإنسان لا يُغير حياته مطلقاً، فجميع أنواع الحياة تتساوى»، وحيث يصفها بالقول: «يعتريني هذا الشعور الغريب بأني شخص زائد عن الحاجة أو متطفل على المكان بشكل ما»، وأن «الجميع يعرفون أن الحياة ليست جديرة بأن تعاش»، و«لم أكن أجهل، في الحقيقة، أن الموت في الثلاثين أو في السبعين سيان»... هذا هو أحد أثقال الغربة الثقافية والروحية والشعور بالعدمية والعزلة والتهميش. وهو ما يجب أن يتمّ علاجه قبل أن يتفاقم!