آخر تحديث: 27 / 4 / 2024م - 6:56 م

مرورا بذكريات «الرستة»

ياسر آل غريب *

كان أكثر مايشغل الأمهات خروج أطفالهن إلى «الرستة»، لم تعد هذه الكلمة متداولة في دول الخليج كما كانت في النصف الثاني من القرن العشرين. اقترضها أجدادنا من الهندية والفارسية وتعني الشارع المعبّد بالأسفلت. وإذا كان جيل الألفية الثالثة لم يسمع بها أو لا يستعملها في حديثه؛ فهذا هو شأن اللهجات في التحور والتبدل والاندثار.

شخصيا، كان بيتنا لا تفصله عن «الرستة» إلا أمتار قليلة، فأصوات السيارات والشاحنات وأضواء المصابيح ساهمت في تأثيث الذاكرة. وهذه هي التسمية التي تلقيناها منذ الطفولة إلى أن أصبح يسمى بالشارع العام، وبعد ذلك بسنين سجل رسميا باسم شارع الإمام علي بن أبي طالب، كان ومازال هو الشريان الأهم، باعتباره الخط المعنوي لبداية المدنيَّة في صفوى فعن جانبه يقع المستشفى والنادي والمدارس التي بنتها شركة أرامكو ضمت خدماتها المجتمعية الكبرى في المنطقة الشرقية، وكم كنا نحس بمفارقة مشهدية، فكما رأينا تجليات العمران الحديث رأينا بيوت الصفيح في الحزم عن جانبه الآخر بما تمثله من بساطة، إلى أن أزيلت لاحقا وأمسى الشارع تجاريا بامتياز يعج بالحركة والنشاط.

تمتد ذكرياتي بامتداد المسافة التي كنت أقطعها على رصيف الشارع العام ذاهبا إلى المدرسة وراجعا إلى البيت، فأنا أنتمي إلى جيل «المشائين» الذين حملوا حقائبهم المدرسية رغم كل الظروف المناخية الحارة والباردة والعاصفة والماطرة. أما في عطلتنا الأسبوعية فقد كنت مع أبناء الجيران نقصد نفس الشارع ونتجمع عند محطة سيارات الأجرة، لنتجه إلى سوق الخميس في القطيف، وكانت تلك جرأة كبيرة منا بعيدا عن عيون أهالينا!!

بعد كل هذه السنين المتلاطمة مازلتُ أتذكر ذلك الشارع بكل تفاصيله، فمن تلك البقالة الخالدة كنت أشتري مجلات الأطفال، ربما كانت تلك اللحظات هي التي عززت عندي حب القراءة والاطلاع. وأتذكر أني كنت أقف قليلا، لأرى كيف كان الدجاج يدور في «الشواية»، لم تكن تربطنا أية علاقة بالمطاعم حينها، فأكل البيوت هو السائد، وإن وجدت تلك المحلات فهي للعمالة الوافدة في الأغلب. كانت العشوائية في شوارع الثمانينات هي المسيطرة فجنبا إلى جنب تجد رائحة البوفيهات مختلطة بأصوات محلات الأشرطة، ولا عجب أن تجد مقهى بجانب محل بنشر.

الشارع جزء حيوي من الذاكرة المكانية، يتجدد كل حين بخطوات المارة، ويكون أقرب إلى الوجدان الشعبي، وهو صورة للمتغيرات والتحولات الاجتماعية. وأنماط الحياة الاستهلاكية. ولكل شارع إشاراته ودلالاته الخاصة به في كل حقبة زمنية، تصلح لأن تكون مادة دسمة للكتابة السردية.