آخر تحديث: 27 / 4 / 2024م - 1:39 ص

كيف نقاوم لعنة الذكاء

محمد حسين آل هويدي *

بسم الله الرحمن الرحيم ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ - صدق الله العلي العظيم - [البقرة: آية 269].

لقد ناقشنا في مقالنا السابق [1] ، لعنة الذكاء. اليوم، نناقش كيف نقاوم هذه اللعنة. رجاء، اقرأ المقال الأول قبل متابعة هذا الموضوع.

سعيا لمقاومة لعنة الذكاء، دعونا نلقي نظرة على ثلاثة مفاهيم رئيسية [2] :

1. الانعكاس الإدراكي (cognitive reflection)

2. التواضع الفكري (intellectual humility)

3. الوعي العاطفي (emotional awareness)

فيما يتعلق بالانعكاس الإدراكي، علينا تطبيق قانون الجبر الأخلاقي (moral algebra). وهذا يعني أنه عند التفكير في قرار كبير (أو فكرة خطيرة)، من المهم إنشاء ورقة تقويم نسجل فيها الإيجابيات والسلبيات للفكرة المطروحة. بعد ذلك، نقوم بالتأمل بعناية في كل عنصر في القائمة ومن ثم نعيّن قيمة عددية لكل عنصر، بناءً على الأهمية. بعد مراجعة القائمة، نقوم بشطب أي أزواج متساوية الوزن للكشف عن التوازن رغبة في الوصول إلى قرار حاسم. من خلال تحليل القرار بشكل موضوعي ومن جميع الزوايا، يمكننا وبعناية فصل العقل عن العاطفة. يمكن أن يساعد هذا النهج، وأساليب أخرى، مثل تلك التي تسمى النظر في العكس (أي التبصر في وجهات النظر المختلفة)، في تخفيف أخطاء التفكير. إذ تتضمن تحديًا لأنفسنا للنظر إلى سبب احتمال أن يكون حكمنا الأولي خاطئًا.

يتم قياس الانعكاس الإدراكي من خلال التبصر في الإجابات البديهية الخاطئة. الأشخاص، الذين يمتلكون مهارات انعكاس إدراكية عالية، أقل عرضة لتبني نظريات المؤامرة، وأكثر مقاومة للمعلومات الخاطئة، وأفضل في تحديد مدى صدق عناوين الأخبار. عند محاولة تقييم ”الصدق“ لمعلومة، نتأكد من طرح أسئلة نقدية حول المصدر، والدوافع، وكيف يقدم الطرف الآخر معلوماته وحججه. من يطرح هذ الاقتراحات والمعلومات، ولماذا يرغب في أن نعتقد أنه حقيقي؟ ما هي الافتراضات الأولية حول الطرح، وكيف يمكن أن تكون معيبة؟ هل تُقَدَّم المعلومات بطريقة تجعلها تبدو ”صادقة؟“ في النهاية، مقاومة البيانات الخاطئة يتعلق بكيفية التعاطي مع هذه المعلومات. تطوير مهارات التفكير النقدي والانعكاس الإدراكي أمور لازبة في عالم مليء بالمعلومات المعقدة، وغالباً ما تكون مُضَلِّلَة. وعلينا أن نطبق هذه القواعد ليس فقط على الأطراف الخارجية، بل حتى الجوانب الداخلية.

بعد ذلك، نلقي نظرة على التواضع الفكري. مثال جيد على هذا حدث خلال رحلة بحث قام بها طالب دراسات عليا في جامعة ميشيغان، جيمس ستيغلر (James Stigler)، إلى اليابان. هناك، شاهد درسًا لطلاب الصف الرابع كان يتحدى بشدة افتراضاته حول طرق التعلم الصحيحة. في يوم من الأيام، كان الطلاب يتعلمون كيفية رسم مكعبات ثلاثية الأبعاد. كانت رسوم أحد الطلاب غير منضبطة - وكان هو الطالب الذي اختارته المعلمة للذهاب إلى السبورة وتوضيح أسلوبه للجميع. كان ستيغلر مرتبكًا - بدا هذا أكثر كعقاب مهين بدلا من درس للاستفادة.

بينما يكون هذا النهج قاسيًا بمعايير الغرب - وكأن الغرب مقياس لكل ما هو مثالي، يعكس هذا النهج فلسفة تعليمية مختلفة سائدة في نظم التعليم الشرق آسيوية التي لا تعتبرك تتعلم إن لم تتعثر قليلاً. ويتم التركيز على تعزيز مهارات مثل التواضع الفكري والتفكير المستقل. ونتيجة لذلك، يتفوق طلاب شرق آسيا في كثير من الأحيان على نظرائهم الغربيين في التقييمات التعليمية العالمية.

على عكس المعتقدات الغربية الشائعة حول التعليم، تُظهر الدراسات أن الارتباك والصراع ضروريان للتعلم. يدعم مفهوم الصعوبات المرغوبة (desirable difficulties) لعالمي الأعصاب، الزوجين، روبرت وإليزابيث بجورك (Robert and Elizabeth Bjork). يمكن أن تؤثر تحديات التعلم، مثل الاختبارات السابقة - إذا طُلب من الطلاب حل المسائل قبل أن يتعلموا عنها فعليًا - على قدرة الطالب في البداية. ولكن على المدى الطويل، تؤدي إلى فهم أعمق واسترجاع أفضل.

تطبيق هذه الرؤى الشرقية في التعليم سيؤثر إيجابيا على قدرة الطلاب على التعلم. يمكن أن يشجع تمديد فترات الانتظار، بعد طرح مسألة غريبة على الطلاب، على تفكير الطالب بشكل أعمق. تعمد طرح الغموض، مثل عرض طرق متعددة لحل مسألة رياضياتية، يعزز التفكير المتحرر. وتشجيع الطلاب على تخيل مقال تاريخي من وجهات نظر مختلفة أو النظر في الاحتمالات الوهمية يعزز التفكير المعقد والانعكاسي. من خلال دمج هذه المبادئ، يمكن أن يتطور التعليم، منتجا جيلا من المتعلمين يستطيعون مقاومة لعنة الذكاء.

أخيرًا، دعونا نلقي نظرة على الوعي العاطفي وأهمية الذكاء الجماعي في فرق العمل المشتركة. وجدت الباحثة أنيتا ويليامز وولي (Anita Williams Woolley) أن نجاح الفريق في مهمة عملية كان مرتبطًا فقط بشكل هامشي مع متوسط الذكاء لأعضائه. وجدت أن روح الفريق، وليس ذكاء الفرد، كانت السبب الأول للنجاح. تميل الفرق التي يتمتع أعضاؤها بالتأقلم مع مشاعر بعضهم البعض والمشاركة بشكل متساوٍ إلى الأداء بشكل أفضل بكثير من الفرق التي يهيمن عليها شخص أو اثنان. لذا إذا كنت تحاول تجنيد فريق ذكي، عليك أن توظف أشخاصا ذوي مهارات اجتماعية.

القيادة تلعب أيضًا دورًا حاسمًا في استغلال الذكاء الجماعي للفريق. يمكن للقادة المتواضعين، الذين يشجعون على التواصل المفتوح، ويقدرون مساهمة كل عضو في الفريق، أن يعززوا بشكل كبير أداء الفريق. القادة الذين يتصرفون كخدم (سيد القوم خادمهم)، بدلاً من كونهم شخصيات طاغية تربض على منابر عاجية، يعززون بيئة أكثر إنتاجية وتعاونية. ويبدو أن صفات القيادة المثالية تجمعت في رسول الإسلام الذي بنى أكبر رقعة على وجه الأرض وهو متوسد للتراب.

الذكاء العالي لا يمنح الحصانة تلقائيًا من تفكير غير منطقي أو اتخاذ قرارات سيئة؛ في الواقع، قد يكون أحيانًا سببا للإخفاق. لحسن الحظ، استيعاب التواضع الفكري، واستكشاف زوايا مختلفة، والاعتراف بتحيزاتنا يمكن أن يعزز بشكل كبير قدرتنا على التفكير بحكمة واتخاذ قرارات مستنيرة. هذا أمر بالغ الأهمية في عالم يعاني من الأخبار الكاذبة والأكاذيب، وضروري لتحسين النظام الخطابي السائد في الساحة.

[1]  م. ح. آ. هويدي، ”لعنة الذكاء،“ 11 02 2024. [متصل].

Available: https://jehat.net/109114. [تاريخ الوصول 11 02 2024].

[2]  D. Robson, The Intelligence Trap, W. W. Norton & Company, 2019, p. 336.
سيهات - دكتوراه في علوم الحوسبة و باحث وكاتب مستقل