آخر تحديث: 30 / 4 / 2024م - 1:04 ص

من جورج إلى رقية

جلال عبد الناصر *

وضعت برفق كوب الشاي الذي يفوح برائحة النعناع. وطلبت من الخادمة إحضار ملف بلاستيكي. وما إن صار الملف بيدها حتى سحبت منه ظرفًا بداخله رسالة عمرها اثنتان وأربعون سنة، كُتبت في إحدى ضواحي برايتون الإنجليزية. ختمها صاحبها بـ حبيبتي رقية، كوني بسلام... محبّك جورج.

بعد سنين عجاف قررت ”رقية“ أن تبوح بسر كاد أن يدفن معها، وذلك بعد صراع استمرّ لعقود من الزمن. فراحت تدخل مفتاحها في قلب صندوق أسرارها، وتديره بألم لتكشف عن حكايتها. إنّها حكاية لمعركة قد انتصرت فيها قيم الأسرة على رغبات الأنا.

لقد نشأت رقية في أسرة ملتزمة. فهي ربيبة المسجد وحبيسة الشعائر الدينية. وفكرة والدها في السفر إلى إنجلترا لدراسة اللغة الإنجليزية كانت مفاجأة قد كسرت الحواجز السائدة في ذلك الوقت. حيث لم يكن حينها أن يُسمح لفتاة في العشرين من العمر أن تسافر بمفردها. وكانت الخطة أن تسكن في منزل شقيقة والدها المتزوجة من رجل ذي أصول عراقية.

إلّا أنّ ”جورج“ ابن القس وربيب الكنسية تلقّفها. وقصة الحب التي حدثت بينهم كادت أن تدفع الأخير لأن يستغني عن كنيسة والده ويعتكف بين المنارة والمحراب. وفي المقابل ”رقية“ كانت على استعداد أن تعلّق الصليب على صدرها وتركن حجابها في أحد دواليب والدتها وتركع أمام المذبح. ولكنّ أحدهم عرف بالأمر وغدر ”برقية“.

فقد تم استدراجها كي تقضي إجازتها وتعود ثانية لبرايتون. إلّا أنه بمجرد أن وطئت قدمها مطار الظهران. كانت قصة الحب قد طوت آخر صفحاتها. فقد تم محاصرتها والحجر عليها. أما جورج فقد انقطعت أخباره. ولم تستطع أن تتواصل معه.

لقد تزوجت رقية ومضت بها السنون. وملأت منزلها من البنين والبنات حتى إنها أصبحت جدة. إلّا أنها أقسمت بأنها لم تذق طعم السعادة إلّا مع ”جورج“. وأنّ جرحها لن يندمل إلّا بعد موتها. وتقول أيضًا حتى هذه اللحظات وعندما يعانقني زوجي أشاهد صليب جورج الفضي يتدلّى من رقبته. شهقت رقية وقالت: كم تمنّيت بأنّي لو كنت وليدة هذا الزمان... زمن المتغيّرات.

هناك حالة تسمى Religious disaffiliation أي أن يترك الإنسان معتقداته الدينية لسبب ما. والوقوع في الحب أحد تلك الأسباب.

وهنا سألت ”رقية“، أقصد الحاجة ”رقية“ عمّا إذا ما كان يستحقّ الأمر أن يتخلّى الإنسان عن دينه لأجل المحبوب، فابتسمت قائلة: يبدو أنك لم تذق طعم الحب.

اختصاصي نفسي في مجمع إرادة للصحة النفسية بالدمام