آخر تحديث: 29 / 4 / 2024م - 8:50 م

زكي الميلاد من التجديد إلى التنوير

الدكتور محمود محمد علي *

عرفت الأستاذ زكي الميلاد منذ كان يجيء لمكتبة الإسكندرية مرارا وتكرارا، مرة رأيته مع أستاذنا الدكتور محمد عمارة، ومرة مع صديقي الدكتور عصمت نصار، واعتقد أن الأستاذ الميلاد ليس في حاجة مني إلى أن أسلط الأضواء عليه، بل ربما هو يعاني منها، إذ يشغل الرجل مساحة من الثقافة الفلسفية المعاصرة بما يقدمه من كتب ومقالات مهمة.

واعتقد أن سؤال زكي الميلاد الأساسي كان عن ”النهضة“، وهي تمثل النقطة المحورية التي دارت حولها سائر أعماله الفكرية، وهو ليس فقط باحثا عنها، وإنما مشاركا فيها، وذلك حين استخدم أبرز الدراسات التي تناولت فكر النهضة العربية من عدة جوانب مختلفة، وذلك في كتابه ”عصر النهضة.. كيف انبثق؟ ولماذا أخفق؟، الصادر عام 2016 م، إذ يرى زكي الميلاد أن الحديث عن النهضة وعصرها إنما هو حاجة دائمة ومستمرة، ففيه نضجت وتبلورت قضايا وإشكاليات النهضة والإصلاح، حيث يقول:“ تتأكد الحاجة إلى هذا العصر في ظل ما نلمسه اليوم من انحدار حضاري خطير"، فيعيد الباحث زكي الميلاد قراءة إشكاليات النهضة العربية، حيث قام باستعراض أبرز آراء الباحثين والمفكرين الذين قدموا دراسات وأبحاث في القرن الماضي عن فكر النهضة العربية، محاولاً استنطاق هذه الدراسات، واستخراج أبرز الأفكار والفرضيات التي ناقشتها.

كذلك من القناعات المشتركة في نظر زكي الميلاد أن الإصلاح الفكري هو العنصر الجوهري لنهضة الأمة، وأنه نقطة الانطلاق الأساسية التي يبدأ منها كل تصور للخروج من الأزمة، ومن هنا رأينا أن موضوع تجديد الفكر الإسلامي عند زكي الميلاد يعد أحد هذه الإسهامات.

لقد اهتم زكي الميلاد بإشكالية ”التجديد“ وذلك في كتابه ”الفكر الإسلامي بين التأصيل والتجديد“، حيث أدرك الميلاد أن المجتمعات الإنسانية تتقادم بمرور الزمن، ولذلك عمد زكي الميلاد إلى النظر للتجديد على أنه مشروع بذاته، ويحتاج إلى جهد علمي؛ ويرى الميلاد ضرورة توضيح أن التجديد في الفكر الإسلامي لا في الدين الإسلامي الذي لا يجوز فيه الزيادة ولا النقص ولا التغيير أو التبديل ولا النسخ أو التعطيل وما شابه ذلك، وأن المراد بالتجديد هو إصلاح موقفنا من الدين.

وهذا ما دفع زكي الميلاد إلى تأكيد ضرورة أن نبرز في هذا الوقت نبوغ الفكر الإسلامي وعبقريته الحضارية الفذة، إذا ما علمنا أننا على أعتاب دورة تاريخية جديدة يشهدها العالم اليوم، حيث التحولات الكبرى، والتقدم السريع على المستويات كافة، والتطورات تتلاحق بشكل مذهل من أصغر الأمور إلى أكبرها، حتى بات من الصعب السيطرة عليها من جهة.

وبعد أن حدد زكي الميلاد مفهوم التجديد في الفكر الإسلامي، ينتقل إلى تحديد الآلية التي يتم بوساطتها التجديد، وهذه الآلية تتمثل في المنهج المتبع في عملية تجديد الفكر الإسلامي. ويرى زكي الميلاد أن حركات التجديد والإصلاح في الفكر الإسلامي نوعان: حركات فكرية دعوية منها حركة الشيخ محمد رشيد رضا، وحركات منهجية منها حركة الإمام الشاطبي، والفارق بينهما في النوع الثاني هو محور الحركة، أما في الأول فإن الدعوة والإصلاح هما محور الحركة.

وأما في مبحث ”التجديد في الفكر الإسلامي الشيعي“، فقد ذهب زكي الميلاد إلى أن الفكر الشيعي في كل دوراته التاريخية كانت له إبداعات وتجديدات في مختلف ميادين الثقافة والعلوم، لكنه في ذات الوقت أثار بعض الإشكالات التاريخية والمنهجية والسياسية التي اعترضت هذا الفكر، أهمها اختزال الفكر الإسلامي في مدرسة واحدة هي المدرسة السنية، ومحاولة إقصاء الفكر الشيعي عن واقع الحياة الفكرية والاجتماعية عن طريق دراسات تحوي مغالطات تاريخية أو عقائدية.

وأما فيما يخص ضوابط التجديد فقد حصرها زكي الميلاد في خمسة: عدم تجاوز النص بالتأويل أو التعطيل، وعدم الإخلال بالقواعد المنهجية للتجديد، والتزام المنهج الإسلامي، ومراعاة الثوابت والمتغيرات.

وثمة نقطة أخرى جديرة بالإشارة وهو كما يرى زكي الميلاد أن البحث في التجديد يؤدي إلى البحث في التنوير، وهنا رأيناه في كتاب له بعنوان: ”الإسلام والمدنية.. حوارات حول الفكر الإسلامي قضاياه ومسائله وإشكالياته“، يرى أن الأسئلة الكبرى التي تتعلق بالتنوير، كأسئلة الديمقراطية والحرية والدين والمرأة، ستظل حاضرة في ساحتنا الفكرية بوصفها اختباراً للمعرفة، ومقياساً للتطور، لكن الإجابة عنها يفترض أن تكون على الأرض وفي الميدان والتجربة لا أن تصبح مجرد نظريات على الورق فقط؛ وفيما يتعلق بالديمقراطية يرى الميلاد أن الفكر الإسلامي في طريقه إلى التصالح مع الديمقراطية، وأن المهم ليس وصول الإسلاميين إلى السلطة بل المهم وصولهم إليها عبر صناديق الانتخاب، معتقدا أن التحولات التي حدثت في عالمنا العربي خرجت من رحم الشعوب المقهورة.

أما فيما يتعلق بواقع المرأة في المجتمعات الإسلامية، فيرى زكي الميلاد في كتابه ”: تجديد التفكير الديني في مسألة المرأة“، أن واقع المرأة قد تغير واختلف بصورة كبيرة، إذ أصبحت المرأة اليوم أكثر وعياً بذاتها، وبنظرتها إلى مستقبلها، وبدأت تبحث لنفسها عن فرص التقدم في المجالات العامة، ولم تعد تقنع بالأدوار التقليدية والضيقة والمحدودة، أو بتلك الوصايا الشديدة والشاملة من الرجل، بعد أن اكتسبت تعليماً جيداً وتدريباً وخبرة وثقافة عالية.

أما في ما يتعلق برؤية الميلاد للدين، فإنه يرى في كتابه: ”الإسلام والحداثة من صدمة الحداثة إلى البحث عن حداثة إسلامية“، أن الدين واجه تحديات كبيرة، جعلته أمام طريقين طريق التحدي والبقاء وطريق التهميش والعزلة، فقد واجه الدين في العصر القديم تحدي الفلسفة، وواجه في العصر الوسيط تحدي العلم، وواجه في العصر الحديث تحدي الحداثة، وواجه في العصر الحالي تحدي العولمة، واستطاع أن يثبت فاعليته، وأمام غيرها من التحديات الكبرى.

لم يكتف زكي الميلاد بذلك، بل رأيناه يسعى جاهدا إلى تأكيد قيمة الثقافة والإعلاء من شأنها، وإعطائها درجة عالية من الأولوية، والاستلهام منها والتخلق بها، واعتمادها منظوراً في التحليل والنقد والاستشراف، فالثقافة هي تلك الطاقة والقوة والروح التي تبعث على التجدد والتقدم والنهوض، مع التركيز على الجوهر الإسلامي للثقافة، والاهتمام بأبعاده الإنسانية والأخلاقية والحضارية.

نتيجة لذلك جاءت محاولة زكي الميلاد اقتراح مفهوم المثقف الديني، في كتابه: ”محنة المثقف الديني مع العصر“، الصادر عام 2000 م، الذي حاول فيه أن يلفت النظر إلى هذا المفهوم من خلال تحريكه في المجال الفكري والثقافي، في سعي للاقتراب من مفهوم المثقف الديني، الذي يجعل مرجعيته الفكرية من داخل الحضارة الإسلامية.

وهنا يحاول زكي الميلاد طرح مفهوم إسلامي حول ”المثقف الديني“، حيث يريد أن يؤسس للمثقف الديني على وفق هذه الرؤية، ويحاول إيجاد تمايز أو مفارقة بين المثقف الديني والمثقف الغربي، فيرى أن الأول مثقف ديني بطبعه ويتخذ من الدين مرجعية فكرية له، ومن أمثلة هذا المثقف الكندي والفارابي وغيرهما، ممن لهم رأيهم المستقل المعبر عن مرجعيتهم الفكرية، أما الثاني فهو على العكس من الأول، فهو غير ديني بطبعه، ولا صلة له بالدين.

أما في كتابه: ”الإسلام وحقوق الإنسان.. تطور الفكر الإسلامي المعاصر من التأصيل إلى التقنين“ فقد حاول الميلاد أن يتتبع تطور فكرة حقوق الإنسان في ساحة الفكر الإسلامي المعاصر، كاشفاً عن طبيعة المواقف والأفكار، وعن طبيعة المسارات والاتجاهات، وأنماط تطورها، وصور تعاملها مع هذه الفكرة، نقداً وتحليلاً، تأصيلاً وتقنيناً.

وفي هذا الإطار جرى حديث الميلاد عن بواعث تجدد الاهتمام بفكرة حقوق الإنسان التي تأخر الاهتمام بها في ساحة الفكر الإسلامي المعاصر إلى ثمانينيات القرن العشرين، وامتد هذا الحديث إلى التطور الذي قطعه الفكر الإسلامي في التحول والانتقال من التأصيل الفقهي والشرعي، إلى التقنين في صورة صيغ ولوائح قانونية وتشريعية.. وللحديث بقية، حيث يكون موضوعنا المقبل عن إشكالية الحداثة لديه.

المراجع:

1- زكي الميلاد، كتاباته المشار إليها في المتن.

2- مصطفى خليل خضر، أطروحات التجديد في الفكر السياسي العربي الإسلامي المعاصر زكي الميلاد أنموذجا، مركز عين للدراسات والبحوث المعاصرة، 2018 م.

3- حليمة بوكروشه، مجلة إسلامية المعرفة، العدد الحادي عشر، 1998 م، مراجعة كتاب: الفكر الإسلامي بين التأصيل والتجديد، دار الصفوة، بيروت، 1994 م.

صحيفة المثقف الإلكترونية، نشر بتاريخ الاثنين 08 نيسان - أبريل 2024
أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط، بمصر