آخر تحديث: 27 / 4 / 2024م - 12:12 ص

حذاءُ الآخر

المهندس هلال حسن الوحيد *

كانت الرابعةَ صباحاً، انكشف الغطاءُ وأحسستُ ببردِ ليلِ الشتاءِ الطويل. لم أرَ زوجتي بجانبي في بيتِ الطينِ المتواضع، كان النورُ خافتاً. ناديتها لم تجبني،  لم أدع زاويةً إلا وبحثت فيها. رباهُ أين هي؟ حاولت الاتصالَ بهاتفها لم أستطع. ارسلت لها رسالةً قلت فيها، أفتقدك أين أنتِ. ماذا جرى لك هل نسيتَ؟ أنا أعملُ في سريلانكا منذ سنةٍ ونصف حتى أجمعَ شيئاً من المالِ وأعود به بعد مدة، نحن نحتاجه وهذا ما اتفقنا عليه، هل أصابكَ مكروهٌ أنساك؟ أنا مع عائلة محترمة، الأكل لا بأس به والمعاملة جيدة ولكن العملَ والفراقَ هما ما يضنيني وقد وعدني مشغلي أن أعود في إجازةٍ بعد سنةٍ ونصف.

هل أنا في حلم؟ حاولتُ الاتصالَ لابني الأكبر، لم أستطع وأرسلت له رسالة نصية، أين أنت بني؟ أنا في حلمٍ أزاح عني السكينة، لا أجدُ أمك! رد على الفور والدي أنا أعمل في الهند الآن وقد حصلت على هذه الوظيفة مقابل راتبٍ شهري أفضل مما أكسبُ في بلدي. والدي، أنت تعلم عن غربتنا انا وامي فلم السؤال؟ رباه، هذه ليلةٌ من الجنون، أنا رأيت زوجتك وابنك أمس! نعم والدي هو كذلك وما يؤلمني ليس الغربة أو طول ساعات العمل وبعض المعاملة الفظة وتأخير الراتب الشهري لكنه بُعد الأهل والولد. لا تقلق لقد وعدني مشغلي أن أعودَ بعد سنةٍ ونصف.

لماذا كلكم بعد سنةٍ ونصف؟ لابد للبنات أن يكونوا موجودين. سألتُ الكبرى كيف أخبار مهنة الطب معك وكيف هم أخواتك؟ أجابت أبي نحن الثلاث في الفلبين نعمل طبيبات. الحمد لله، المالُ أوفر والمستشفياتُ توفر الرعايةَ الطبية والناس يحترمون الطبيب. لما أنتم هناك وليس هنا؟ والدي أنت تعلم أن الوظائفَ شحيحة هناك والمال ليس جيد واتفقنا على العملِ في الغربة حتى نجمع ما يكفي لبيتٍ صغير ودراسة الأولاد. تعنين أن أولادكم هنا وأنتم هناك! بكت وقالت نعم.  

إبني الأصغر وأنا أضمه تحت جناحي أكثر من إخوته، هو الذي سيكون موجوداً يوقظني من هذه الورطة. أين أنت سألته؟ قال يا أبتي أنا الآن في بنجلادش وعند الساعة السابعة يتوجه الناسُ لأعمالهم ولابد لي من غسلِ ست سياراتٍ في الصباح ثم العمل في ورشةِ البناء حتى الرابعة مساءً وبعدها لدي عملٌ آخر. والدي، بصراحة المال هنا لابأس به ولكن عليَّ العمل مثل النحلةِ لجمع ما يكفي لزواجي المقبل بعد سنةٍ ونصف عندما أعود إلى وطني.

تململتْ روحي ولاعبتها الحيرة. كانت رؤياً اترعت نفسي بالآلامِ أن أرى كل أبنائي وولدي بعيدين آلاف الأميال. هل يأتي يومٌ قانونُ الإحلالِ عندما تنضب مواردنا المحدودة ونهبط من جبال الثروة ويرتقي غيرنا من أوديةِ الفاقة؟ لا يختار الله شعباً يصطفيهِ بثرواتهِ وخيراته ويفتح له مصراعي بابَ دوامها إلا بمقدار ما يبقيه مفتوحاً لنفسه. إن أردنا التعرفَ على أحاسيس الآخر فعلينا أن نمشي فرسخاً في حذائه ولكن ليس قبل أن نتعرفَ على أحاسيسنا.  
دوامُ الحالِ من المحال.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
نبيل المرزوق
[ المنيرة ]: 19 / 12 / 2017م - 10:03 ص
خيال قريب الى الواقع المتوقع حدوثه، ودوام الحال من المحال،،،
مقال جميل استأنست بقرائته،،
مستشار أعلى هندسة بترول