آخر تحديث: 26 / 4 / 2024م - 1:52 ص

عبد الخالق الغانم أيقونة الفن السعودي

عبد العظيم شلي

توالت الأخبار عصر هذا اليوم حول رحيل المخرج المتميز عبد الخالق الغانم، واشتعلت وسائل التواصل الاجتماعي في نقل الخبر على امتداد الوطن، خبر آلم الجميع وأكثروا من الترحم عليه واستذكار منجزاته الفنية.

بالفعل خبر صادم ومفاجئ، فمنذ قرابة شهر تقريبا عرف الجميع بحالته المرضية الصعبة وتعاطفوا كثيرا مع صورته التي هزت المشاعر وهو جالس على كرسي متحرك وملامح وجهه تغني عن أي كلام، كل دعى له بالشفاء، وسرت حالة من الاستبشار بعد أن طمأن عضو مجلس الشورى السابق الأديب محمد رضا نصرالله الجمهور باللفتة الوطنية الكريمة واستجابة رئيس الهيئة العامة للترفيه المستشار تركي الشيخ بارسال عبد الخالق الغانم للعلاج خارج المملكة، ولكن اجراءات السفر ربما أخرت الرحلة بسبب الأوضاع الوبائية المتجددة على مستوى العالم، وطوال هذه الفترة كان يتقلب بين الأوجاع والآلام على السرير الأبيض في مستشفى الملك فهد التخصصي بالدمام، وعصر هذا اليوم لم يمهله المرض الخبيث زمنا آخر، قطع أوصال الأمل المعقودة سفرا لتلقي العلاج خارج الوطن، انتهت اجازة العيد، وأسلمت الروح لبارئها.

انتهت رحلة فنان حافلة بالعطاء، ومسيرة متميزة ومختلفة عن كل المخرجين السعوديين الآخرين، حيث الموهبة المتقدة منذ الصغر والدراسة الأكاديمة في معهد الفنون الجميلة ببغداد، والتتلمذ على يد أساتذة كبار من أمثال ”بدري حسون فريد“ أحد رواد الفن العراقي، عنصران أساسيان ارتقى بهما الغانم في بناء معمارية منجزه المتنوع بشكل ممنهج وادراك معرفي ،حسب القواعد الفنية المتبعة ، ممزوجة بحسه وذائقته المكتسبة لكل ما يمت لعالم الاخراج التلفزيوني، لم تتوفر لدى الآخرين، فكان هو السباق للتحصيل الأكاديمي قبل غيره، فجاء للفن مثل ما يقال على أصوله، خابرا اللعبة الدرامية بجميع أبعادها، وحين تولى زمام الإخراج للأعمال الفنية المحلية كان شغوفا بالتجديد، وأحدث نقلة نوعية على مستوى الدراما السعودية.

لقد برز اسم عبدالخالق الغانم على طول مساحة الوطن، خصوصا بعد توليه اخراج المسلسل المعروف ”طاش ما طاش“، وعن هذا المسلسل تحديدا غضب عبدالخالق الغانم من كاتب السطور حين وجه له نقدا صريحا متمثلا في أصل العمل بأنه منهوب اسما وفكرة من دولة البحرين وبالأدلة والتواريخ والقرائن.

تفّهم وجهة النظر فيما بعد ولكن على مضض وقد وضحت له المسألة، وجها لوجه، قائلا له: يا أبا وفي، ليس لك علاقة في نسبية العمل لا من بعيد ولا من قريب، أنت أتيت للعمل وشبه معروف سلفا، من سبقك في اخراج المسلسل عامر الحمود تدور عليه علامات الاستفهام، وربما القصبي أو السدحان هذان الثنائيان المتميزان ربما لطشا فكرة واسم العمل الأصلي البحريني وجيروه لأنفسهم، وأي كلام حول هذا الموضوع حاليا وانتسابه لأصله لا يفيد طالما أصحاب الشأن «أعضاء مسرح الجزيرة البحريني» صامتون، هنا ضاع أصل الحقيقة.

لكن الحقيقة بأن مسلسل ”طاش ما طاش“ خرج من عباءة الاخراج التقليدية عند مخرجه السابق، الى مخرجه الأشهر «الغانم» الذي أخرجه من حالة الرتابة المملة، الى فضاء الحركة والأكشن، وتمكن من تقديم حلقات مغايرة عن السائد والمألوف، ثمة مشاهد طرحت جرعات جريئة لم يعتدها المواطن السعودي، حلقات لامست همومه وقضاياه، وضربت في العمق، واعتبر مسلسل ”طاش ما طاش“ الرمضاني العمل الدرامي السعودي الوحيد الذي اقترب من الخطوط الحمراء، وتحدث جزئيا عن المسكوت عنه وبعض الحلقات احدثت جدلا واسعا.

التحدث عن مسيرة الفنان عبد الخالق الغانم الفنية مليئة بالشجن والمعاناة والحلم، وقد أفرغ كل ما اكتسبه من فكر وفن وموهبة أصيلة وحس مرهف في اعماله الدرامية المتنوعة.

كثيرة هي المسلسلات التي أخرجها، مدونة في كثير من المواقع، وعند ذكر منجزاته الفنية المرافقة لخبر نعيه، دائما يشير التاريخ 1992 لبداية أول عمل فني قام باخراج تمثيلية ”رحلة صيد“ - الذي تم تصويره على قارب خال كاتب السطور ”حسين هبوب“، ومسرح الحدث جزء منه في بحر دارين، من بطولة الممثل القدير عبد المحسن النمر، لكن الحقيقة الغائبة بأن الغانم أخرج عملا فنيا مسرحيا قبل هذا التاريخ ب 4 سنوات، وتحديدا في جمعية الثقافة والفنون بالدمام.

والحكاية بأن كاتب السطور شاهد عيان على ما سوف يدلي به. أتى عبدالخالق الغانم من العراق بين 1986 و1987 تقريبا، في ظل اشتداد أوار الحرب العراقية الايرانية، التي لم تبق ولم تذر، أتى الى موطن والده والعشيرة لأن الأجواء في أرض السواد عسيرة والعيش فيها لا يطاق.

أتى عبد الخالق عند منتصف الثمانينات حاملا الأمل والحلم في بث رؤياه الفنية فوجد أجواء القطيف خاوية، لأن المسرح القطيفي في هذا الوقت تحديدا أصبح من ارث الماضي، بعدما كانت الأندية تعج بالتمثيل والغناء والموسيقى في السبعينات الميلادية.

يمم وجهه صوب جمعية الثقافة والفنون بالدمام، واقترب من أجواء الفنانين الهواة وتعرف عليهم، وشيئا فشيئا أسند له اخراج عمل مسرحي بعنوان ”الكرة المضيئة“ من تأليف الممثلة الكويتية اسمهان توفيق.

عمل درامي رائع لم يكتب له النجاح، فقد قبر في مهده، كان المؤمل ان يعرض العمل المسرحي في الدمام ويأخذ مداه جماهيريا في المنطقة، وعلى وقع البروفات التي جرت على مسرح الثانوية الصناعية بالدمام حيث الجمعية لم يكن لديها مسرح، وعند البروفة الاخيرة، جاء خبر عاجل للجمعية بأن تعرض في الجنادرية، ادارة المهرجان هي من طلبت عرض المسرحية ضمن انشطتها الليلية وكان من المقرر تقديم أكثر من عرض، وبالفعل تم العرض الأول، وسط حضور جماهيري غفير، وتفاعل الحضور مع فكرة المسرحية، الذي تشير الى قرية محرومة من الماء وثمة رجل اهوج يتحكم في مسار تدفق الماء، وهنا بطل المسرحية عبد المحسن النمر لكي يحصل على الظفر بالزواج بالفتاة الحسناء، طلب منه والداها شرطا أن يغامر بحياته لجلب الماء لأهل القرية المحرومين من الماء.

أنينهم دفعه لمحاربة الشرير والتخلص من ظلمه ويأخذ في نفس الوقت الكرة المضيئة من تحت يديه، انتهت المسرحية بعد ان لعب الراوي عبد العزيز اسماعيل في سرد الحكاية التي تخللت فصولها وكذا الوصلات الغنائية التي سايرت وقائع مشاهدها المتعددة.

هذه المسرحية المتميزة تم تأويلها باسقاطات في غير محلها، وحملت فوق طاقتها، وكان مصيرها المنع نهائيا، منعت بعد عرضها الأول الذي يصادف عام 1988، ولحد الآن، ثمة تسجيل لها بكاميرا الفيديو أثناء احدى البروفات، احتمال في حوزة الجمعية ، مسرحية مليئة بالنجوم ، جعفر الغريب ، سمير الناصر ، علي السبع، سلمان زبيل، وكاتب السطور شاهد على بروفات وعرضها اليتيم في الجنادرية. هذ أول عمل يقوم به المخرج عبد الخالق الغانم وليس عام 1992 كما هو مدون.

طبعا تسبب هذا العمل في ردة فعل طاقم العمل وترك ألما عند المخرج عبد الخالق الغانم، والذي ظن بأن مجال الفن مخنوق تعبيريا، لكنه تجاوز كل تلك المخاوف بعد رحلة كفاح عصيبة في اخراج أعمال تركت بصمة في خارطة الأعمال الدرامية السعودية.

عبدالخالق الغانم اسم لاينسى حفر اسمه بحروف من ذهب بتقديم أعمال تعد علامة فارقة في مسار الدراما المحلية واكتسب شهرة خليجيا وعربيا، هو بحق أيقونة من أيقونات الفن السعودي.

الغانم أباح لي ذات يوم بأن تمثيلية الطيور التي أخرجها عام 2000 تتقاطع مع بعض سيرته الشخصية حينما كان يافعا يتطلع لرسم الاحلام. كم من أحلام طبقها

عبد الخالق الغانم على أعماله الدرامية، هي كثيرة وكان لديه أحلام أخرى، المرض أبعده عن عالم الفن لمدة خمس سنوات وعصر هذا اليوم الموت قبر أحلامه المؤجلة للأبد.

وداعا يا أبا وفي

وداعا أيها الرزين

وداعا أيها المبدع

وداعا أيها المثقف

وداعا يا من جعلت الفن فكرا

وليس ترفا.

رحلت يا راسم الابتسامة وفي

العين دمع حزن بمساحة وطن.

حسرات الرحيل مرة، سلام على روحك المبدعة يا عبد الخالق الغانم، المبدعون لا يرحلون.