آخر تحديث: 26 / 4 / 2024م - 2:42 م

صراع الثقافات

محمد أحمد التاروتي *

المخاضات العسيرة التي تواجه ولادة ثقافة جديدة، تكشف جانبا خفيا من القناعات الراسخة، لدى بعض الشرائح الاجتماعية، فالمفاهيم السائدة تبني جدارا منيعا لمواجهة الثقافة الجديدة، من خلال البحث عن مثالب مرتكزات الثقافة الجديدة، والعمل على تحريض القواعد الشعبية ضد الفئات الداعمة لتلك الثقافة، بهدف إيجاد المبررات الداعمة لمحاربتها بشكل رسمي، وعدم السماح لها بالتمدد التدريجي في العقل الجمعي الاجتماعي، خصوصا وان الثقافة الجديدة المدججة بأسلحة التطور، والصديقة للمستجدات بمختلف اشكالها، قادرة على تجاوز العديد من الألغام المزروعة للحد من انتشارها.

الولادة العسيرة للثقافة الجديدة، عملية طبيعية وليست مستغربة على الاطلاق، ”الناس أعداء ما جهلوا“، لاسيما وان الترحيب بالمفاهيم الحديثة ليس ورادا لدى الحرس القديم، نظرا لعدم استيعاب الجزء الأكبر من الثقافة الجديدة من جانب، والخشية من انحسار الدور المحوري للثقافة القديمة على الواقع الاجتماعي، مما يحرض على الاستماتة في سبيل هزيمة الثقافة الجديدة، وعدم السماح لاصحابها بالتحرك بحرية في البيئة الاجتماعية.

صراع الثقافات مرتبط أحيانا بوجود قناعات أساسية، بضرورة ادخال الجديد في المفاهيم الاجتماعية، والعمل على الاستفادة من التطور في سبيل الارتقاء بالفكر المجتمعي، خصوصا وان الجمود يكرس حالة التخلف ويقضي على العقول التنويرية، مما يحفز على الانخراط في المعركة الوجودية، فالثقافة الجامدة غير قادرة على التأقلم مع الواقع الجديد، نظرا لافتقارها للاسس القوية لمواصلة مرحلة العطاء، ورفد البيئة الاجتماعية بمختلف أنواع التفكير التنويري، او القادر على تحديد الاتجاهات الفكرية المناسبة، للنهوض بالعملية التنموية في العديد من المجالات الحياتية.

الاختلافات الجذرية والجزئية في مرتكزات الثقافة القديمة، والأخرى الجديدة، تدفع أحيانا للانتحار الاجتماعي، نظرا لاصرار بعض الأطراف على خيار المواجهة المباشرة، انطلاقا من قناعة ”بعدم القدرة على التعايش السلمي بين الثقافتين“، الامر الذي يفسر استخدام مختلف أنواع الأسلحة، في سبيل تسجيل الانتصار في مرحلة البقاء، حيث يعمد انصار الحرس القديم للاستفادة من الإمكانيات المتاحة، لحسم الصراع منذ الجولات الأولى، فتارة عبر استخدام العاطفة لاستقطاب اكبر شريحة اجتماعية، وتارة أخرى بواسطة بتضخيم المخاوف والعمل على رسم صورة مخيفة، لانتشار هذه الثقافة على مستقبل المجتمع، الامر الذي يسهم في تعميق هوة الصراع، وانتقاله من مرحلة المخاوف الى مرحلة المعركة الوجودية.

التطور الثقافي للمجتمعات عملية طبيعية، وغير شاذة على الاطلاق، فالعقل البشري يمتلك القدرة على تبديل القناعات، بما ينسجم مع المستجدات على الأرض، وبالتالي فان محاولة تكريس ثقافات يواجه لدى أصحاب الفكر التنويري بالتمرد الشديد، خصوصا وان الثقافة القديمة ليست قادرة على معالجة بعض المفاهيم الجديدة، فضلا عن انعدام القدرة على تحريك العقول باتجاه الواقع القائم، مما يفرض التخلي عن بعض القناعات، او محاولة الاستفادة من الثقافة القديمة، للانطلاق نحو بناء مرتكزات حديثة، قادرة على معالجة الأوضاع المستجدة بشكل اكثر عقلاني.

التزاوج بين الثقافة القديمة ونظيرتها الجديدة، عملية غير ممكنة في بعض الأحيان، نظرا للاختلاف الكبير في الرؤى من جانب، وعدم قبول اطراف كل طرف بعملية التقارب من جانب اخر، مما يعزز الاتجاه التصادمي وعدم السعي نحو تقريب وجهات النظر، سواء نتيجة اختلاف المفاهيم والمرتكزات بين الثقافتين، او بسبب الخشية من سيطرة احدى الثقافات على المفاصل الرئيسية، مما يعني الذوبان الكامل، وبالتالي فان محاولة التزاوج تشكل خطورة في نظر انصار كل طرف، الامر الذي يخلق مناخا ملائما لاستمرار الصراع بين الطرفين، جراء عدم وجود المقدمات الأساسية، للانخراط في الاستفادة من الجوانب الإيجابية لكل ثقافة، والعمل على معالجة الجوانب السلبية، بهدف اخراج منتج اكثر قدرة على معالجة الواقع المعاصر، والتحرك باتجاه احداث تحولات حقيقية في مفاهيم العقل الجمعي.

صراع الثقافات عملية قائمة، وليست عملية مؤقتة لفترة زمنية محددة، فالتطور العقلي لدى البشرية يفرض إعادة برمجة الكثير من القناعات، والعمل على رسم مفاهيم قادرة على قراءة الواقع الجديد، بما يسهم في معالجة الواقع المعاش بطريقة اكثر عقلانية، من خلال الاستفادة من الأدوات الحديثة، للارتقاء بالفكر الإنساني، ونبذ الإصرار على القديم، فالتمسك بالقديم ينم أحيانا عن قصر نظر، وعدم القدرة على التأقلم مع المستجدات المتسارعة، التي تواكبها المجتمعات البشرية.

كاتب صحفي