آخر تحديث: 26 / 4 / 2024م - 1:52 ص

وداعا أسطورة كرة القدم «24»

عبد العظيم شلي

جموع متوجهة نحو مباراة القمة بين فريقي اتلتك بلباو وبرشلونة بقيادة مارادونا، منازلة في قلب عاصمة البلاد، على ملعب نادي ريال مدريد «سانتياغو بيرنابيو»، نهائي مرتقب الهبته التحديات قبل أن يبدأ، مواجهة ثانية بعد اسبوعين على آخر لقاء جمعهما ضمن نطاق الدوري، كل طامح للفوز وسط حضور جماهيري، يقدر ب 100 الف متفرج، جلهم لا يعرف للحياد أي معنى.

الزمن يشير إلى 5 مايو 1984، يا ترى ماذا سيسفر هذا التاريخ لك يا اسبانيا، ومن الذي سيخطف كأس الملك لهذا العام، ولمن ستكون الغلبة في نهاية اللقاء، مباراة ستبوح بأسرارها عند صافرة النهاية؟

وأي نهاية ستكون نحو مواجهة نارية بأعصاب مشدودة نتيجة تراكمات سابقة، مواجهة ستعلُ على كل صخب الدوريات المنصرمة وضجيج مباريات الكؤوس الماضية، هل ستكون علامة فصل في مسيرة الفتى، وأي فن سيقدمه بعد عودته من اصابته اللعينة؟

أيها الحاوي كيف ستخرج سحر رجلك المتوثبة والمتعافية منذ بضعة أسابيع، وهل بمقدورها هز الشباك؟

اصطف الفريقان المتنافسان كما العادة لترديد النشيد الوطني الاسباني، لكن جماهير ”الروجيبلانكو“ وكذا ”البلوجرانا“ أظهرا صدا لعدم ترديد نشيد الوطن!، اللاعبون شفاه صمت، حمية اقليمية متأججة لم يخبُ أوارها عند الكتلونيين سلما وعند الباسكيين حربا وارهابا ضد الدولة. كل يرى نفسه مظلوما ونزعة الانفصال لكليهما تسكن النفوس منذ أمد بعيد وتتجدد على الدوام، لكن السلطة المركزية في مدريد تقف لهما بالمرصاد.

قبل إشارة بدء المباراة وقف الفريقان دقيقة صمت حدادا على أرواح مجموعة من مشجعي برشلونة الذين لقوا حتفهم في حادث مروع وهم في طريقهم لحضور المباراة.

انطلقت صافرة الحكم ومعها انطلقت هتافات الاستهجان من قبل مشجعي بلباو ضد مارادونا، فكلما انطلق بالكرة نادته الألسن الباسكية بعبارات عنصرية حول أصوله الهندية - نسبة للهنود الحمر -، ثمة لاعب أسندت له مهمة مراقبة مارادونا طوال زمن المباراة، وهو لاعب خط وسط بلباو ”ميجيل سولا“ تارة باستفزازه بكلمات فاحشة وتارة بالاحتكاك الخشن، وكذا الجزار قام بالدور تناوبا، ضيقوا الخناق عليه وقيدوا تحركاته، ولم يتركوا له مساحة للانطلاق أو المناورة. بعد مرور 12 دقيقة ظل اللعب سجالا، ثم أتت ضربة ركنية لصالح فريق بلباو، رفعت الكرة، وتصدى لها مدافع برشلونة مبعدا الكرة عاليا عن مرماه، لتعود ثانية لأحد لاعبي بلباو وينطلق بها بالقرب من المنطقة الركنية ويرسل الكرة مقوسة عند خط 18 يستقبلها «انديكا» ويثبتها على صدره مثل المغناطيس ويعاجلها بيسراه في زاوية المرمى على يسار حارس برشلونه، هدفا أول لفريق بلباو، عندها اشتعلت المدرجات هيجانا وغليانا ودويا، هدف سجل في الدقيقة 13، ومعه جن جنون الجمهور الباسكي المقدر ب 45 الف مقابل 25 لفريق برشلونة، جمهور بلباو يطوح بأعلام اقليمهم ذي الألوان المحددة، الخضراء والحمراء والبيضاء والقريب شكلا من علم بريطانيا، أعلام بمقاسات كبيرة تتحرك يمينا ويسارا طوال المباراة، تحجب نصف الرؤية عن عين احدى كاميرات الملعب.

وعلى وقع الهدف المباغت دقت الطبول تسابق دقات القلوب والحشود وقوفا مسلوبة الحواس، الجو مكهرب انفعالا والملعب ملوث عنفا، جل اللاعبين تشحنهم الجماهير بهستيريا مضاعفة، صريخ وزعيق وهتاف عنصري لم ينقطع، وكلما انطلق مارادونا بالكرة رموه أرضا فتعلو الصيحات، بعرقلته وراء عرقله، السبيل الوحيد لوقفه تقدمه، ضغط متواصل عليه ورصد لكل تحركاته.

أخطاء بالجملة بين الجانبين والشراسة الباسكية طاغية، استماتة دفاعية عن مرماهم باسم الاقليم وروح الشعب المظلوم حسب وصفهم، أفرغت عدوانية ونكاية نحو الفتى طوال الوقت.

جرح في قدمه يقطر دما، ومنظر قبح من لدن جماهير بلباو بحذفهم علب بلاستيكية ومعدنية على لاعبي برشلونة وخصوصا عند الضربات الركنية، وعلى أثر ذلك توقف اللعب أكثر من مرة - بسبب قرب الجمهور من خط تماس الملعب، لا يوجد مساحة فصل بين خط التماس والمدرج - هندسة تقليدية مقتبسة من الملاعب الانجليزية.

تصرم الوقت بين شد وجذب، لعب طائش وهجوم بائس، وبرشلونة يكابد ويكابد من أجل احراز هدف التعادل، لكن الوقت قاتل وكل محاولاته عصية وسط صلابة بلباوية، دفاع مستميت عن أي اصابة تهز القلعة الحصينة، وبينما وقت اللعب زاحف للدقائق الأخيرة سلك مارادونا طريقه نحو المرمى باندفاع ومراوغة متجاوزا غابة من السيقان والأرجل المتداخلة والمتراصة، توغل عمقا وعند منطقة الجزاء عرقلوه عمدا، ظن الفتى بأن الحكم سيعلن ضربة جزاء، لكن صاحب الصافرة السيد الحكم عيناه شبه مغيبة، ليس في هذا الموقف بل طوال عمر المبارة التي لم يطرد أي لاعب سوى توزيع الكروت الصفراء بين الفريقين اللذان تبادلا الخشونة لكن بلباو هو الأكثر وحشية.

وبينما مارادونا جالسا على الأرض رافعا يده من جراء تلك العرقلة الخطرة ينتظر قرار الحكم الذي اكتفى بضربة مرمى لصالح بلباو، وقبل أن يفز من جلسته اليائسة، اندفع مدافع بلباو بتوجيه شتائم وسباب في وجه مارادونا، بدأ التمرد والتشنج يسريان في عروق الفتى، أزف الوقت وسيف القنوط مسلط على رقاب لاعبي برشلونه بضياع حلم معانقة الكأس، وعند الدقيقتين الأخيرتين من عمر المباراة تكرر موقف آخر، لكن هذه المرة وضع مارادونا رأسه برأس مدافع بلباو الشرس، شرر يتاطير من عيني كليهما، لحظة ايقاد حرب، احتكاك نطح بنطح، هيجان ودفع، ركض مارادونا وطار في الهواء ورجلاه تنقض على لاعبي الخصم، وزميله شوستر يساعده بالذوذ عنه، اشتبك اللاعبون واختلط الفائز بالمهزوم، كل يضرب الآخر بحركات الكنفو والجودو، هبت جماهير فريق بلباو كاسرة السياج ونزلت حومة الميدان ليكتمل المشهد سوء على سوء، غاب العقل وحلت الشراسة كصبية في حارة مجنونة، توسع الركل والرفس واشتد الضرب، سقوط أجساد وركض وملاحقات مسعورة، مزق قميص مارادونا ورمي أرضا أكثر من مرة، عمت الفوضى أرجاء الملعب المصورون يوثقون الخزي والعار، ورجال الأمن تائهون ضائعون، تحول الموقف لغريزية الغاب، لحظات وترك لاعبو برشلونة أرضية الملعب وظل فريق بلباو بين رقص وأنين، منتشرين بين فاقدي الوعي الذين يغالبون نزفهم دما، المسعفون يضمدون جراحات المصابين الذين بلغ عددهم 60 مصابا.

كل هذا المشهد الدموي الذي لم تعرف ملاعب اسبانيا مثيلا له من قبل، وقع أمام أعين الملك ”خوان كارلوس“ بصحبة زوجته ”دونيا صوفيا“ وولدهما ”فيليب“ وشقيقته ”كريستينا“، ورئيس الحكومة الاسبانية فيليبي غونزاليس، وبحضور ملوك وأمراء المستعمرات الاسبانية، وسفراء عديد من الدول.

وأمام أعين 100 الف متفرج شهود على المعركة الكروية المشينة، تسلم كابتن فريق بلباو الكأس من يد فخامة الملك وعينه غنية عن أي قراءة، رفع الكأس عاليا بينما أخلاق اللقاء وقعت في الحضيض.

اعتبر هذا الحدث بأنه أسوأ وأعظم شجار تشهده ملاعب اسبانيا ويعرف باسم ”معركة برنابيو“.

كتبت صحيفة blonet football: «قرر العبقري الصغير الانتقام لنفسه، قد يرى البعض بأنها مشاهد مخزية بما في ذلك ملك اسبانيا، الا إن سعي مارادونا للانتقام، قد عزز أسطورته»!!.

كان لقاء شؤم وبداية رحيل الفتى عن أرض الثيران الأسبانية الهائجة، التي للتو تتعافى من نيران ديكتاتورية فرانكو.

وللأسبان تاريخ مخزٍ في مطاردات المورسكيين الذي فروا بجلدهم نحو الديار المغربية، ضاعت صراخات طارق بن زياد في لجة البحر بعد 800 عام من مشاعل الحضارة وقرون المجد، وتكسرت أحلام مارادونا خلال 3 سنوات في بلاد الأندلس، سنوات تيه وضياع حتى كادت حادثة ان تنهي مستقبله الكروي للأبد، حلمه تلاشى كما تلاشت من قبل أحلام استرداد فردوس العرب المفقود منذ 500 عام، لا البكاء يرجع الأطلال حية كما كانت ولا النحيب يرجع الأموات من مرقدها لتدافع عن الأرض السليبة، التاريخ دروس وعبر والمعتبرون قليلون.