آخر تحديث: 6 / 5 / 2024م - 5:57 م

تطوير الحزن وملاحظات على أداء المنبر

زكريا العباد

منذ انطلقت ثورة الحسين الفريدة في نوعها وهي تشق التاريخ عبر القرون ولا تزال في كل قرن وفِي كل عام تكتسب وهجا متجددا وروحا مستعصية على الفناء متعالية على التصنيف وكأن الحسين حين ضحى بروحه منحها روح الخلود وأسبغ عليها من صفاته الإنسانية والروحية والعاطفية الرحبة.

والمتأمل لبقاء هذه الذكرى رغم تعاقب القرون يدرك بوجدانه أن لا قلق على فكرة الحسين ولا قلق على حالة التعاطف التي انغرست في ذكراه المتجددة سنويا منذ انبلاج ضوئها في عمق تاريخنا الإسلامي.

والمتأمل سيدرك بوجدانه أيضا أننا جميعا سنذهب في مطاوي النسيان وسيبقى الحسين وحده يرث التاريخ ويرث الأرض وما عليها، وذلك لأنه روح المظلومين والمستضعفين ومعنى العدالة الفطرية التي لا بد أن يصحو ضميرها في يوم من الأيام في نهاية هذا التاريخ البشري.

أقول هذا لأنني ألاحظ بعض ما يدور من حوارات هنا وهناك حول ذكرى الحسين بين الفكرة والعَبرة، ومهما يكن من تفاصيل فلا شك لدي أن جميع الآراء مهما كانت لا تتنكر للعاطفة لأنها لا تتنكر للتعاطف مع العدالة ولا تتنكر للمعاناة والتضحية التي بذلت في طريقها، جل ما يمكن أن يثار حوله الجدل هو اختصار النهضة في العاطفة على حساب الفكرة.

ومهما كان انحيازنا للفكرة عارما، انطلاقا من انحيازنا للعقل وللموقف الراشد الذي ينتشلنا إن ما أوقعتنا العاطفة الخالية من الفكر في بعض المطبات، فإن هذا الانحياز للعقل لن يجعلنا نتنكر لدور العاطفة المتزنة السامية التي هي أيضا نور يضيء للإنسان حين يصاب العقل بالعمى في ظل تعقد الواقع، وكخلاصة يمكن القول أن فطرة الإنسان هي مزيج من عاطفة وعقل راشدَين.

وعلي الآن أن أهبط إلى الواقع بعد مقدمة نظرية تستشرف الواقع من مسافة تأملية عامة لازمة لنظرة شاملة، فهدف المقال المباشر هو وضع ملاحظات وتساؤلات عملية حول واقعنا المحلي فيما يرتبط بإحيائنا العاطفي لذكرى النهضة الحسينية، وعليه فإن التلخيص يستلزم الحديث على هيئة نقاط حول أداء المنبر:

1 - في واقعنا التربوي داخل أسرنا نحتاج للحسين لترسيخ التاريخ والهوية والعديد من القيم، وقد اخترت لأطفالي المراهقين مادة سهلة تناسب معلوماتهم البسيطة فتحلقنا داخل منزلنا حول منبر الشيخ حسن الخويلدي لما يتميز به من سلاسة وعرض تاريخي وصوت شجي.

2 - إن اختياري للشيخ الخويلدي هو اختيار اضطراري بسبب غياب ما يمكن أن نسميه «منبر الطفل»، وقد كانت لمجتمعاتنا محاولات متواضعة في السنوات الماضية لخلق هذا النوع من المنبر كان أبرزها محاولة الشيخ إبراهيم الحجاب رحمه الله في صفوى والأحساء، إضافة إلى محاولات إنشاء مخيمات للطفل ملحقة بالمجالس الحسينية هنا وهناك، ورغم أنها محاولات لم تبلغ درجة التخصص إلا أن الجائحة عصفت بها دون أن يكون لدينا بديل عصري مواكب لتقنيات الإتصال الحديثة ناهيك عن غياب المختصين. ولا يخفى ما لهذا الموضوع من أهمية في استمرار العاطفة والفكرة عبر الأجيال.

3 - لاحظت أن سماحة الشيخ الخويلدي «وغيره من الخطباء» في محاولة استدراره للدمعة يركز على مشاهد العنف الشنيع التي مورست ضد الحسين وأصحابه، وهنا يتبادر إلى ذهني سؤالان: الأول هل لهذه المشاهد المركزة أثر نفسي سلبي على الأطفال ولو في سن مبكرة أم لا يوجد؟

والثاني: هل هذه التقنية ناجحة في استدرار الدمعة وإثارة العاطفة فعلا؟

4 - حين أتأمل هذا الأمر يبدو لي أن التركيز على جانب العنف الذي وقع على الإمام الحسين خصوصا وعلى أصحابه عموما قد لا يكون العنصر الأكثر نجاحا في إثارة العاطفة، لا لأنه ليس أمرا فظيعا، وليس هذا تقليلا من شناعة الجرم وبشاعته، ولكننا إذا دققنا النظر في الأمر فسنجد فارقا دقيقا بين أنواع مختلفة من المشاعر تحف بهذا الموقف، فمن يقع عليه فعل التقطيع يشعر بأقسى درجات الألم فعلا، وهذا مثير للتعاطف بلا شك، ولكن هذه الدرجة من الألم غير قابلة للتعدية للآخرين على وجه تام، وبالتالي يصعب نقلها إليهم بخلاف مشاعر إنسانية أخرى تعبّر عن تجارب مشتركة بين صاحب المصيبة وبين المتلقي مرّ بها أو بمثلها المتلقي وعايش بعضها، كالفراق واليتم والإهانة والإذلال من الآخرين وفقد الحنان والرعاية، فهي مواقف خصبة للاستثمار العاطفي؛ وبالتالي هي قابلة للعدوى أكثر من غيرها من صنوف المعاناة الجسدية، فالألم النفسي أبلغ وأكثر إيلامًا.

5 - ربما يتكئ المنبري على فكرة أن الإمام معصوم وهو في قمة الهرم في بنائنا الانتمائي، وبالتالي فإن ما يقع عليه من آلام وجراحات هو في قمة هرم الألم والتأثير على المتلقي، ولكن هل هذا التبرير صحيح؟ هل ما يصدق على العقيدة يصدق على العاطفة أم أننا بحاجة إلى منظومة وبناء إنساني حين نعمل على نشر العاطفة؟

6 - هل الفكرة السابقة - إذا كانت صالحة للبناء عليها في زمن الآباء - فهي لا تزال قابلة للبناء عليها زمن الأبناء الذين ربتهم وسائل التواصل الاجتماعي أكثر مما يربيهم أهلوهم وبالتالي فهم ليسوا مدركين لفكرة العصمة كما تدركه الأجيال السابقة؟

7 - ألا يؤثر تكرار مشهد القتل سلبا على المتلقي بحيث يضعف تفاعله معه؟ إننا نلاحظ أن الحسين يقتل في كل ليلة من بداية محرم عند بعض الخطباء، ألا يضعف هذا من تفاعل المتلقي؟

8 - إنتي ألاحظ أني قد أتفاعل مع بعض هذه الأبيات التي يضعف تفاعلي معها مع خطيب معين حين يقرؤها ناع آخر، وهذا قد يشير إلى بعض المزايا الفنية في الأداء يجدر بكل ناعٍ أن يحسنها.

9 - إضافة إلى النواحي الفنية، فإن للحزن طاقة تنتقل من شخص إلى آخر، وهذه الطاقة يمكن أن تكون صادقة ومتفجرة فتنتقل عدواها إلى المتلقي.

10 - يجدر بنا أن ندرك أن النعي المنبري مسيس الصلة بالفنون المسرحية والأدائية، ويجدر بنا أن ندعم تكوّن جهة تعليمية وتدريبية تدعم المنبر وعاطفته.

11 - إن اختلال أو ضعف أو تقليدية الخطاب العاطفي للمنبر وعدم تجدده قد يعيق تطور جوانب أخرى ذات صلة، فالخطيب لن يتخلى عن ذكر مواقف تاريخية مشكوك بها بقوة لأنه يرى فيها مخزنا ثريا للعواطف فيميل إلى التسامح في ذكرها، والسيد منير الخباز هو برأيي خير مثال على ذلك حيث تجد محاضرته على مستوى عال من الرقي الفكري، في حين تجد أن خطابه العاطفي في مستوى متواضع نسبيا، ومما يزيده تواضعا أن يثير في ذهن المتلقي أسئلة تاريخية أصبحت مثارة في الساحة الثقافية مما قد يضعف من تفاعل المتلقي عاطفيا.

12 - يلجأ بعض المشايخ كالشيخ أحمد سلمان إلى ناع يتكفل بالجانب العاطفي كالملا مرتضى قريش وهو خيار جيد يعزز من قيمة التخصص من جهة ويسد ثغرة من جهة ثانية حين يرفع من مستوى الأداء العاطفي، ومن جهة ثالثة يثري الساحة بطاقات تتكامل فيما بينها.