آخر تحديث: 26 / 4 / 2024م - 1:52 ص

الطفولة والإبداع واللغة

محمد الحرز * صحيفة اليوم

ثمة نوعان من الناس يعيشان هذه الحياة: الأول يتدرج في ملاعبها، يكبر من الطفولة إلى الشباب إلى الرجولة ثم الكهولة، وهو فيما يكبر تكبر معه طفولته. لكنها تفقد براءتها ودهشتها. بينما النوع الآخر تكبر معه. لكنها لا تفقد براءتها ولا دهشتها.

مقال اليوم يركز في حديثه على هذين النوعين، وعلاقة كل منهما بالطفولة والصفات المرتبطة لكليهما.

دائما ما نقول: السر يكمن في الطفولة، العبارة تختصر الكثير من الأهمية التي تعطى لهذه المرحلة من حياة الإنسان. ولا معنى للسر هنا سوى التفسير أو التأويل الذي نطمئن إليه في حال استعصى علينا تحليل المواقف الإنسانية وتصرفاتها في حياتها اليومية. على سبيل المثال، قد تجري - يوما ما - على شفتيك عبارة: لقد عشت مع هذا الشخص الصديق عشرين عاما. لكني لم أعرفه إلا في هذا الموقف أو ذاك.

وهي حالة تنم عن استغراب، لأنك بكل بساطة، لم تستطع أن تفسر تصرفا أو سلوكا أقدم عليه صديقك بينما كنت تظن أنك تعرفه معرفة تامة بحكم العشرة والصحبة.

ربما جميعنا نصادف مثل هذا الموقف في علاقتنا الاجتماعية وحتى الأسرية، ولا نعيرها أدنى اهتمام أو التفات. لكن تطور الدراسات المعرفية لاحقا في علم الاجتماع وعلم النفس والفلسفة أدى إلى إعطاء تفسيرات مختلفة حول هذا السلوك أو ذاك المفاجئ حسب كل مجال معرفي يتلقاه.

ما أريد أن أصل إليه هو أن مفاتيح الطفولة أصبحت مفتاحا وحيدا يمكن أن نطلق عليه «مستر كي» الذي بإمكانه أن يسعفنا كثيرا في تفسير حالات ذهنية وسلوكية تستعصي على المراقبين والمحللين.

لذلك إعادة تركيب الطفولة من جديد، وإعطائها صورة لها شكل ومعنى هي من المهمات الصعبة التي حاول التحليل النفسي السريري ممارستها، والمدارس الأدبية اللعب على وترها كالسوريالية مثلا. لكن بالنهاية اللغة الأدبية كانت وما زالت هي الأقدر على تمثل هذه الصورة أفضل تمثيل، من أي جهة جاءت من مجالات الأدب والفن.

وهنا نصل إلى الفرق بين النوعين من الناس اللذين تطرقنا إليهما في تصدير المقال، فالأول تتحلل الطفولة وتضعف كلما تقدم العمر بالإنسان، فإزميل الزمن ينحت منها الشيء الكثير، حتى لا يبقي لها أثرا ظاهريا. لكنها تظل تؤثر في عمره جسدا وروحا من العمق.

لكن مثل هذا الأثر يظل خافتا، يظهر في السلوك مثل لمعة في عتمة، مثل برق في ليل دامس، ثم يختفي أو يهجع ويعود إلى كهوف الطفولة، فأسلحته التي يستطيع أن يقاوم بها ضربات الزمن بإزميله قد فقدها منذ الطفولة، لأسباب ليس هنا محل ذكرها، فالدهشة والبراءة اللذان هما سلاحها الأنجع قد تقطعت سبل الوصول إليهما، ولم تعد تسعفه مثلما كان طفلا. لقد فقدهما ولن يعودا إليه مطلقا.

بينما على الجانب الآخر تظل الدهشة والبراءة تلازمان النوع الثاني من الناس مهما عمل الزمن عمله، ومهما أطبق عليه بكلتا يديه، والسبب ليس في كون هذا الإنسان أو ذاك يملك موهبة الإبداع والفن، فالجميع قادر على الأغلب في امتلاك طرف من الفن والإبداع، بأي شكل كان. لكنهم بالنهاية لا يصلون بإبداعهم إلى الطبقات الدفينة التي فيها كنوز الطفولة، وتنظيفها من غبار السنين، وهذا لا يتم في تصوري إلا بامتلاك ناصية اللغة الإبداعية الخالصة، ناصعة البياض، خفيفة المسرى، ثقيلة المعنى، تضيء الدهاليز الضيقة للطفولة، لا تتعب من الركض، في تلك المساحات الضيقة منها.

مثل تلك اللغة حين يمتلكها المبدع، يصبح قادرا على إعادة تركيب الطفولة بما يفسر شخصيته وسلوكه، وبالتالي يعطي لحياته معنى وقيمة. وهناك الكثير من المبدعين الذين أعادوا بإبداعهم هذه الصورة وأعادوا من ثم تركيب حياتهم من جديد.