آخر تحديث: 1 / 5 / 2024م - 1:50 ص

حكايتي مع فيلم ”برا المنهج“ بسينماء الهرم

محمد الشيوخ *

قبل نهاية العام الماضي وتحديدا في مساء يوم الثلاثاء الموافق 28 من شهر ديسمبر لعام 2021 م، الذي امتاز بشدة البرودة، قصدت سينماء ”الهرم“ التي تقع في شارع الهرم الشهير الموازي لشارع فيصل الاكثر شهرة من بين شوارع احياء القاهرة في محافظة الجيزة وربما اكثرها اكتظاظا بالسكان، بغرض مشاهدة أحد الافلام التي لم اخطط مسبقا لمشاهدته كعادتي حينما اذهب لدور السينماء وبشكل محدود غالبا.

على جدار واجهة بوابة السينماء وجدت لافتة اعلانية تشير اعتزام السينماء عرض اربعة افلام في الوقت الذي خصصته لهذا الغرض، فاخترت أحدهم وكان بعنوان ”ابو صدام“ والذي كان يفترض ان يعرض في تمام التاسعة والنصف مساءً، أي بعد وصولي للسينماء بنصف ساعة تقريبا، وهو ذات الفيلم ايضا الذي رشحه لي أحد الاخوة الخبراء في هذا المجال.

بعد انتظار وترقب للفيلم المختار دام نحو ثلث ساعة فوجئت بخبر لا يخلو من الغرابة من أحد موظفي السينماء مؤداه: انه ولأسباب فنية لن يعرض هذا المساء الا فيلم واحد فقط من الاربعة المعروضة، وهو الفيلم الذي استثنيته منذ البداية بتعزيز ومشورة اخينا اعلاه الذي كان على تواصل معي في الاثناء عبر الواتساب، من شرق المملكة العربية السعودية وتحديدا من جزيرة تاروت التي تعتبر رابع أكبر جزيرة في الخليج العربي. بعد الجدال الطويل مع اخينا موظف السينماء حول“سخافة“إلغاء الافلام المعروضة قدم لي عرضا ”مغريا“ فحواه: إذا كنت مصرا على مشاهدة الفيلم الاول الذي اخترته، فيمكنك ان تدفع 50 ج اضافية فقط وسنفتح لك صالة العرض لتشاهده وحدك! قلت له: ياعيني على العرض الجميل وانتهى الأمر!

وبما أني قد قطعت مسافة طويلة نسبيا من المحل الذي كنت اسكن فيه حتى اصل لمقر السينماء القابعة في وسط شارع الهرم الذي تجرى فيه حاليا الصيانة والتوسعة ومسار خاص للميترو، بحسب ما يتناقله الناس هناك، ضمن خطط تطوير شوارع القاهرة القديمة في محاولة جادة لفك أو تخفيف الاختناقات المرورية عنها، ولأن ذلك المساء وضمن فقرة الترفيه، قد خصصته سلفا لمشاهدة فيلم ما في احدى سينمات احياء القاهرة التي لا ينام معظم أهلها الا فجرا، ولأني ايضا قد قطعت التذكرة ولا سبيل لاسترجاع قيمتها، ولرفضي القاطع العرض المثير للسخرية والمقدم لي من موظف السينماء اعلاه، قبلت بمشاهدة الفيلم الوحيد المتاح ”لتبخر“ باقي الخيارات الاخرى في اللحظة الأخيرة، وعلى اثر ذلك دخلت القاعة المخصصة لهذا الفيلم والتي كانت برقم 3، لمشاهدة احداثه التي استمرت نحو 100 دقيقة تقريبا.

ومع ان قيمة التذكرة في هذه السينماء كانت ب 50 ج، أي ما يعادل 13 ريالا تقريبا، الا ان بائع التذاكر المح لي بأنه قد اختار لي مقعدا مميزا في القاعة، والتي اكتشفت لاحقا ان عدد مشاهدي الفيلم في تلك القاعة لا يتجاوز عدد اصابع اليدين، ما يعني ان عملية تخصيص المقعد ليس لها أي معنى، وغاية ما في الامر هو مجرد الحصول على اكرامية لتكون فوق الحسبة نظير الخدمة المميزة المقدمة لي، وهو ما فعلته برحابة صدر، تماشيا مع برتوكولات الاكراميات المتجذرة في العرف المصري والسائدة ربما في معظم ارجاء احياء مصر الحبيبة.

حينما اقتطعت التذكرة من الشباك المخصص لبيع التذاكر ودخلت بهو السينماء وجلست بانتظار بدء الفيلم الموعود كي ادخل لاحقا القاعة المخصصة لعرض الفيلم، ناداني موظف الكافتيريا وبكل لطف وادب عارضا علي مأكولاته ومشروباته المتنوعة قائلا وبالطريقة المصرية: هل ترغب يا سعت الباشا بمشروب معين أو مأكولات محددة قبل ان تغلق الكافتيريا؟!

مع أنى اعلم سلفا بأن الكافيتريا لم ولن تغلق الا بعد اغلاق جميع ابواب السينماء، أي في تمام الساعة الثانية من فجر اليوم التالي، وهذا ما حصل بالفعل، الا أنى لوحت له بيدي شاكرا اياه بعدم رغبتي بشيءٍ في هذا التوقيت بالذات، علما بأن الكافتيريا المقرر اغلاقها، هي عبارة مجرد مساحة متر في مترين مع ”طربيزة“ بنصف عمر وثلاجة حمراء اللون شبه متهالكة تحتوي على بعض المشروبات الغازية وعلب الماء، وقد أكل الصدأ بعض جوانبها.. هكذا على الأقل بدا لي منظرها والله العالم. أما بالنسبة لحكاية التنبيه بإقفال الكافيتريا، والذي تكرر حتى في فواصل الراحة اثناء مشاهدتنا للفيلم في صالة العرض، لا يعدوا أكثر من طريقة مألوفة للترغيب والتشويق والالحاح والضغط وفق سياسة ”القوة الناعمة“ أو اللينة، كما يحلو للبعض تسميتها، والمستخدمة على الزبائن، والتي تمرس فيها اخواننا محترفي التجارة بمصر، كمتطلب اساسي في فن البيع والشراء، ليس الا.

بعدها بثواني معدودات ناداني أحد موظفي السينماء قائلا: يا حضرة الاستاذ تفضل، الفيلم قد بدأ الآن. هممت مسرعا للقاعة المقصودة فكان امامي ذات الموظف الذي ناداني وأخذ يقودني نحو الصالة وبيده ”كشاف“ الانارة ليوصلني للمقعد المخصص لي ملمحا لي بالإكرامية الجديدة رقم2، أي بعد اكرامية موظف شباك التذاكر. الطريف في الأمر، انه وبمجرد ان وعدته بأن التقيه عند بوابة الخروج بعد نهاية الفيلم مباشرة لمتابعة قصة الاكرامية الجديدة، كي لا تفوتني بدايات الفيلم الذي استمر نحو ساعة و40 دقيقة وكان بعنوان ”برا المنهج“، تركني وحدي لأتدبر امري مع المقعد المخصص لي حصرا والذي ظل شاغرا طوال وقت الفيلم لعدم حاجتي اليه اصلا ولقلة عدد مرتادين السينماء.

يظهر ان هنالك ثمة تنسيق وان كان غير مخطط له قد تم حول موضوع الاكرامية بين موظف الشباك الذي كتب خلف التذكرة رقم المقعد «5» المخصص لي، والموظف الآخر «ابو الكشاف» الذي تركني وشأني اتصرف كيفما شئت مع المقعد في ظلمة صالة السينماء لأني اجلت الاكرامية، في حين كان هو يريدها حالا، تيمنا بالحديث القائل: أعطي الاجير اجره قبل ان يجف عرقه! وبات من الواضح لدي ان تخليه عني لكي أدبر امري مع المقعد المخصص لي كان عقابا لتأجيل دفع الاكرامية المستحقة لحين الانتهاء من الفيلم!

وبالعودة لحكاية الفيلم، الذي وجدت نفسي مجبرا لمشاهدته لانعدام الخيارات البديلة، كان بطله طفلا وسيما لكنه يتيم الابوين واسمه نور، يبلغ من العمر 13 سنة. بيد ان فكرة الفيلم الاساسية، بحسب فهمي المتواضع لحبكته، هي عبارة عن توجيه دعوة وان كانت شبه مبطنة فحواها مناهضة الاعتقادات الخاطئة والخرافات المخالفة للمنطق والعلم وسنن الحياة ونواميس الكون خصوصا لأشخاص يفترض ان يكونوا أكثر الناس بعدا عن هذه الآفة وأعني بذلك فئة المعلمين المعول عليهم في ان يكونوا خط الدفاع الاول لمواجهة الخرافات الساذجة والاعتقادات الباطلة.

وبحسب حبكة الفيلم، فأن بطله الطفل نور كان يسعى بجد نحو تعزيز كسب ثقة واحترام زملائه له في الدراسة ومعلميه الذين ابتلوا بتلك الآفة ومن بينهم معشوقته زميلة الدراسة سامية، حيث كانوا جميعا يتعاملوا معه بوصفه معتوها في البداية، ثم انقلب المشهد رأسا على عقب، بعد مرافقته للشبح الذي أصبح وسيطا له في حل مشاكل ابناء مجتمعه بطرق خارقة، بحسب اعتقاداتهم الراسخة. وكذلك كان مهتما ايضا بتحسين معيشة افراد اسرة خالته الفقيرة التي احتضنته بعد وفاة والديه، والمنحدرة من أب مدمن مخدرات، الذي كان يبذر الاموال الذي يجمعها البطل مقابل حل مشكلات ابناء مجتمعه الريفي بواسطة الشبح.

الفرصة التي اقتنصها البطل جيدا وجعلته باشا الحي وحلال المشاكل، جاءت من خلال وجوده في فناء منزل مهجور ملاصق لمدرسته، حيث كان زملاؤه الطلبة يخافون المرور بقربه لاعتقادهم بوجود اشباح مخيفة بداخله. فبعد أن القوه زملائه في الدراسة عنوة، وبطريقة مشابهة للأفلام الهندية، في فناء المنزل المهجور، بغرض جلب الكرة التي هو القاها بالخطأ في اثناء لعبهم في حصة الرياضة، اكتشف نور ان الذي يسكن ذلك المنزل المهجور هو رجل آدمي عجوز وليس من عالم الجن والاشباح اصلا كما هو شائع للجيران، لكنه يمثل دور الشبح السفاح المخيف مع انه يمتاز بالحكمة وغزارة المعرفة خصوصا بحضارة مصر وتاريخها العريق المكتوب وغير المكتوب ايضا، كما هو عنوان الفيلم «برا المنهج» والذي كان يعيش فيه مختبئاً لسنين طوال هربا عن العالم الواقعي، لعدم قدرته التكيف مع اعرافه وتقاليده الجديدة التي لا يستسيغها هو ولا تنسجم مع اخلاقيات المصرين وتاريخهم العريق ويعتقد انها غير متسقة ايضا مع المبادئ الحقة وطبائع البشر الاسوياء، كما يظهر من حبكة الفيلم، علما بأنه كان يروج للخرافات والاعتقادات الخاطئة رغم اقراره بعدم صحتها.

وجد البطل اليتيم نفسه من خلال هذا الموقف امام فرصة تاريخية نادرة، سيحقق من خلالها كل احلامه فأصر على ان يبرم مع الشبح العجوز صفقة العمر، وبموجبها نشأت بينهما علاقة صداقة تربوية لا تخلوا من تحقيق بعض المصالح المشتركة بينهما، وبسببها ايضا تأهل نور لاحقا في أن يكون محترما ومهابا ووسيطا في حل مشاكل الناس، بطرق خارقة، وفي مقدمهم طبعا اصدقائه ومعلميه وابناء حارته وقائد المدرسة ايضا، الذي كان هو الآخر يطلب بإلحاح وفي الخفاء من التلميذ البطل بعد ان ذاع صيته ان يحقق له بعض الامنيات الخاصة كزواج ابنته الوحيدة من رجل محترم، بواسطة طلاسم الشبح الحكيم الذي بات يحل مشكلات اهل القريبة المستعصية عبر الصبي الذكي نور.

بعد نهاية الفيلم، الذي اعجبت لاحقا بفكرته الرئيسية وبعض نكاته الفرعية، وكان من إخراج وتأليف عمرو سلامة وسيناريو وحوار خالد دياب وطاقم العمل المكون من: ماجد الكدواني، روبي أحمد أمين، أسماء أبو اليزيد، دنيا ماهر، أحمد خالد صالح، اخبرت اخينا الذي اعتدت على وصفه بخبير الافلام، بأني قد شاهدت فيلم“برا المنهج " غير المدرج في القائمة اصلا فاستنكر خياري بطريقة دبلوماسية لظنه اني قد خالفت مشورته في مجال هو شبه متخصص فيه.

حينها قلت له مازحا: يا أخي العزيز صفي النية، وحري بك ان تدرك جيدا اننا في مصر ام الدنيا التي تعتبر واحدة من أبرز ميزاتها كثرة العجائب والغرائب التي لن ولم تنته، على الارجح، الا بعد تغيير اجيالا عديدة وانتفاء مسبباتها المتشابكة، وذكرته بأن في مثل هذا المورد خصيصا وردت المقولة الشهيرة: ”إذا عرف السبب بطل العجب“، وصرت اذكره ببعض المواقف الطريفة التي عايشتها شخصيا وعايشها هو ايضا وآخرون كثر، في ام الدنيا وكلها كانت تمتاز بالغرابة واللاغرابة والنكتة في آن، وهي بالمناسبة برا المنهج ايضا.

وبعيدا عن الفيلم ورسائله الاساسية والفرعية الذي اراد ايصالها مخرج ومعد السيناريو، والتي أقر بأني قد استمتعت حقا بمشاهدته واستفدت منه وتابعت بشوق كامل تفاصيل احداثه، أملي الكبير هو ان يكون القارئ الكريم ايضا هو الآخر قد استمتع بملخص فكرة الفيلم وفصول حكايتنا ما قبله مع موظفي السينماء الكرام، والتي تصلح هي الاخرى، كما اظن، ان يحاك حولها فيلما جديدا يضاف لقائمة الافلام المصرية الطريفة، ويا حبذا لو يكون بعنوان: حكايتي مع فيلم ”برا المنهج“ بسينماء الهرم.

باحث في علم الاجتماع السياسي