آخر تحديث: 18 / 5 / 2024م - 1:23 ص

الصدى الخالد

النهضة الحسينية الإصلاحية ومضة معرفية وسلوكية مشرقة ألقت بظلالها على الساحة الفكرية والتربوية، بما لا يقوى أي متأمل وقاريء أن يتجاوزها دون أن تخامر عقله ووجدانه ليخرج بحصيلة ذهنية مؤثرة عليه، ومن الخيوط المعرفية لها هو اتصافها بالخلود وعبور العامل الزماني والمكاني دون أن تخبو أو يتلاشى وهجها، بل هي حية كشعلة تتناقلها الأجيال لتكسو معالم شخصياتهم بما كان يدعو له الإمام الحسين من قيم العدالة والكرامة والقوة في وجه أمواج الظلم، هذا الخلود - بحق - معلم يؤكد على حقيقة هذه النهضة وتلمسها لمتاعب الإنسان في كل زمان والمعاناة من الأمراض الأخلاقية الجارفة نحو الضعف النفسي والخنوع والانسلاخ من الإنسانية الجميلة.

وناهيك عن بقية المعالم والنتائج التي تستحق مطالعة البحوث والكتب المتناولة للنهضة الحسينية، لتحصيل زاد حسيني معرفي يتحرك مع الإنسان في كل جوانب حياته ويرشده نحو الحق والفضيلة، كيف وهذه النهضة لها جمالها وأبعادها العقائدية والفكرية والإنسانية التي تشكل صورة متكاملة من المباديء السامية.

لقد كانت هذه النهضة المباركة ملحمة تاريخية كشفت عن دائرة من دوائر الصراع الدائر بين الخير والحق والقيم العالية من جهة ومعسكر الفساد والإسفاف الأخلاقي من جهة أخرى، فتلك المواقف العظيمة التي تجلت من الإمام الحسين وأصحابه الكرام تعبر عن مدرسة ممنهجة تمتزج فيها الروح الإيمانية والتهذيبية والبطولية، كما أن الإجرام بكافة أشكاله الذي مارسه أعداؤهم ينبيء عن انسلاخ من الإنسانية، فهؤلاء الذئاب البشرية قد أعمت بصيرتهم الدنيا ببريق متاعها الزائل، فغدوا يبحثون عن تحصيل المال وفق قاعدة «الغاية تبرر الوسيلة»، ولو أفضى ذاك لارتكاب جريمة يندى لها جبين التاريخ والإنسانية، بينما في المقابل هناك رجال الله الذين تجافوا عن دار الغرور وزهدوا في زخرفها الزائل فلم تضللهم المغريات ولا أرهبهم التهديد بالبطش أو بالموت.

لقد شيد الإمام الحسين في نهضته الإصلاحية مدرسة أخلاقية واجتماعية وروحية تلتزم بالقيم الدينية والإنسانية فلا تحيد عنها قيد أنملة مهما كانت الظروف، وفي مقابلها كانت مدرسة الانتهازية والنفعية وموت الضمير، فالمدرسة الحسينية شامخة متماسكة في بنيانها قد أيقظت العقول من سباتها والنفوس من خنوعها وفكت قيودها من تكبيل ضعف الإرادة والاستسلام أمام مواجهة التحديات، ولذا نرى ذلك التفاعل الكبير من البشرية بتنوع أديانها وعناصرها مع النهضة الحسينية، لما تمثله من قيم يعدها الأحرار في كل جيل مصدر إلهام وزاد فكري لا غنى عنه في صناعة الشخصية الإنسانية ويقظة الضمير الإنساني، وكلما تمعن الباحث في الحقائق الخاصة بهذه الواقعة وأبعادها وتفاصيلها سترفده بالكثير من الدروس والعبر، فهي خالدة ومحفوظة في الوجدان والعقل تتلمس من خلالها البشرية طريقها في عتمة الحياة، فالسعادة الحقيقية لا تتحقق بامتلاك الأموال بل هي امتلاك الكرامة والعزة والتمسك بالإنسانية، فالحياة ميدان يتسابق فيها الأحرار نحو الرقي والتكامل الإنساني وبث الفضيلة والمعروف أينما حلوا وتواجدوا، همتهم قبلتها امتلاك الحكمة في الفكر والاستقامة في السلوك والأفعال، وهذا ما سعى الإمام الحسين لتثبيت أركانه كما كان يفعل ذلك جده المصطفى ﷺ.

النهضة الحسينية تحمل من القيم والمعالم التربوية ما يجعلها تقدم منهجا ينهل منه الأحرار في كل زمان ومكان، ولقد تفاعلت الأمم على اختلاف مللها مع هذه الحركة الإصلاحية الأصيلة فنظرت لها بإكبار وإجلال، حيث أصبحت النهضة الحسينية مصدر إلهام ونموذجا يحتذى به في طريق الكرامة والحرية وصناعة الشخصية القوية المتكاملة، فالحسين نبراس الصمود والمواجهة والصبر في وجه الظروف القاسية دون أن يتنازل عن شيء من مبادئه الأخلاقية، فالحسين واجه خيارا صعبا واختبارا لا نظير له في مفترق طرق بين الذل والهوان والخضوع للاستبداد وبين التمسك بالقيم مهما كلفه الأمر، وهذه المواجهة التي خاضها الإمام بكل بسالة واقتدار وشجاعة في المواقف بلغت شغاف القلوب ولب العقول، كمواجهة حملت كل معاني الفضيلة وما قابلها من صفات المعسكر الآخر من رذائل الأخلاق؛ لتبقى نهضة الحسين صرخة تستنهض الهمم وترن الجرس على الضمائر الغافلة والنائمة.