آخر تحديث: 27 / 4 / 2024م - 1:39 ص

آخر الشهود...!

ميرزا الخويلدي * صحيفة الشرق الأوسط

في تلك المنطقة الملتهبة وسط الجليد، التي تقرع منها اليوم طبول الحرب في شرق أوروبا، خرجت قبل سنوات قليلة كاتبة مبدعة من العائلة السلافية ذاتها التي تمزقها اليوم صراعات الأحلاف وطموحات القيصر؛ هي البيلاروسية سفيتلانا ألكسييفيتش الحائزة على جائزة نوبل للآداب عام، برواية فريدة من نوعها، تروي شهادات الأطفال البيلاروس الذين عاصروا الحرب العالمية الثانية، وفتكت بهم نيرانها وأحقادها، وصبت جام غضبها على مدنهم وعائلاتهم، فتشردوا، وفقد الكثير أمهاتهم وآباءهم، وألفوا الجوع والدموع والوجع.

في كتابها «آخر الشهود»، تستقصي على مدى 25 عاماً سيرة الأطفال الذين شهدوا تلك الحرب الأبشع في التاريخ الإنساني، حيث قُتل وجُرح وهُجِّر أكثر من مائة مليون شخص، لكن ضحايا ذكريات الحرب أكبر من ضحايا الرصاص فيها، «تقتل الرصاصة شخصاً واحداً بينما تفتك الذكريات بالعشرات معاً».

تقول الرواية: «أعرف أن الشقاء ندبة في الروح، إن بدأت في الطفولة فهي تستمر العمر كله»، الكتاب إدانة لمنطق الحرب، ولغريزة القوة التي تجلب الدمار، نجحت الكاتبة في أن تصيغ الإدانة بلغة صارخة موجعة ومفجعة ومشحونة بالألم ومكتوبة بالدموع حين سطرتها بلسان الأطفال الذين عاصروا تلك الحرب... ف «الطفل هو الشاهد الأخير على الكارثة»، وحيث لا تبقي الحرب في نفوس الأطفال سوى «انطباع يشبه شعلة النار، إنها شعلة تحترق وتحترق بلا نهاية».

ماذا يقول الأطفال الذي شهدوا ويلات الحروب وفقدوا إحساسهم بالطمأنينة والأمان، بل فقدوا المأوى والعائلة، عاشوا وسط جحيم الانفجارات وأصوات الرصاص المنهمر، واضطروا أن يحملوا الحياة فوق أكتافهم وهم ما زالوا أطفالاً صغاراً، وأصبحوا بفعل الحاجة كباراً مسؤولين عن جيش من اليتامى والأرامل والمشردين... كل ذلك بشع! والأبشع منه أن حدقات عيونهم سجلت مشاهد مروعة لا تمحى من الذاكرة... عندما شهدوا قتل آبائهم وأمهاتهم: «لماذا أطلقوا النار على الوجه، أمي كانت آية في الجمال»، يقول أحدهم، ويقول آخر: «التقيت في الشارع مرة رجلاً شبيهاً بأبي فتبعته لمسافة طويلة، فأنا لم أر أبي ميتاً»...

في آخر صفحة من الكتاب، يقول أحدهم: «أحسسنا بأننا آخر من يقف عند ذلك الحد، نحن آخر الشهود... إن زماننا يُختم ويجب علينا أن نتحدث... وكلماتنا ستكون آخر الكلمات»...

لا شيء يعادل دمعة طفل بريء... سواء كان ذلك الطفل في بيلاروسيا، أو القوقاز، أو أي مكان، خصوصاً في مخيمات اللجوء والتشرد التي تمتلئ بالأطفال السوريين وسط لفح البرد وصقيع الشتاء...

هناك تجربة أدبية سطرها الكاتب السعودي عزيز ضياء، المولود في المدينة المنورة في 22 يناير «كانون الثاني» 1914، وهو العام الذي شهد اندلاع الحرب العالمية الأولى. في ثلاثية «حياتي مع الجوع والحب والحرب» يروي عزيز ضياء، عن طفولته في الحرب الكونية الأولى، حيث شهد حصار المدينة وتهجير أهلها، ثم المجاعة التي حلت أطنابها هناك، كتب عن الخوف والجوع وانعدام الأمن والتشرد وأجواء الحرب، كأنه يصورها لقرائه، رغم أنه عاصرها صغيراً لكنها غرست مخالبها في ذاكرته الصغيرة... عن طفولته في ظل الحرب يكتب قائلاً: «إنك لا تدري مثلاً أني قضيت طفولة فتحت عينيها على مآسي الحرب العالمية الأولى «...» عرفت الرعب الذي لا يملأ القلب فحسب، وإنما يملأ الأحلام سنيناً طويلة من العمر»، وعن الجوع يقول: «عرفت الجوع... الجوع الذي يمزق الأمعاء، الجوع الذي جعل وجبة الخبز الأسود أشهى وألذ وجبة تذوقتها حتى اليوم «...» الجوع الذي يجعل المرء حين يمشي في الشارع أو الزقاق لا ينظر إلى ما حوله أو أمامه، وإنما ينظر إلى الأرض وحدها. حيث يتحرى العثور على كسرة خبز أو حبة فاكهة أو عظمة فلا يجدها».