آخر تحديث: 30 / 4 / 2024م - 9:26 ص

ذكريات وحشة طريق العودة بعد مشي الأربعين!

بعد أيامٍ قليلة من المشي البهيج، كان لزامًا أن نعود راكبين من حيث قدمنا. المسافة أقلّ من ساعة في السيارة، لكنها كانت في حزنِ عمر! مرت ساعة في طول دهرٍ من الزمن! لا أحد يجرنا من أيدينا ويقسم علينا أن نستريح ونأكل ونشرب! ماذا حصل؟ كانت الحياة جميلة صاخبةً ثرثارة، تزمجر وتهدر كالموج!

لم تصدق عيوننا وحشةَ المشهد! صرنا نسأل: أحقًّا هذا هو الطريق الذي مشيناه قبلَ أيام؟ تغير تمامًا! اكتظت الذكريات في رؤوسنا اكتظاظًا شديدًا؛ هنا تعبنا، هنا أكلنا، هنا أصلحنا أحذيتنا، أتذكرون ما حصل هنا؟ أتذكرون ما فعلنا هنا؟ اختفت كلمات الترحيب: اهلا وسهلا، مرحبا يا زائر، تفضل!

من قال أن الجمادَ لا يبكي؟ بلى يبكي! رأينا الطريق الصحراويّ وسمعناه يبكي ويعول ألمًا وحزنًا! يسأل أين من مشوا؟ أين من مروا؟ أين من صلّوا وأكلوا وشربوا وتَعبوا وناموا، أين من زاروا؟ سلوة الطريق والمباني والعتاد ان السنة تمر سريعًا وتعود الحياةُ إليها مرة ثانية! طريق قفر، لا أنسَ فيه، مثل البيوتات التي تركها الركب الحجازيّ بعدما خرجَ من المدينة ولم يعد. لم يعد، لأن أرضًا أخرى استأنست به واحتضنته إلى أبدِ الآبدين وأمدِ الآمدين:

للهِ أقمارٌ أفلنَ بكربلا ** ولها بيثربَ والمحصّبِ مطلعُ

أنست بهم أرضُ الطفوفِ وأوحشَت ** هضباتُ يثرب والمقام الأرفعُ

﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ ! السماء والأرض تبكي المؤمنين المقربين عند الله، ولا تبكي أصنافًا أخرى من الناس! والعرب يقولون في فقد العظيم: بكت عليه السماءُ والأَرض، وأظلمت الشمسُ والقمر لفقده، وكيت وكيت! روي عن النبي «صلى الله عليهِ وآله وسلم»: ”ما من مؤمنٍ إلا وله باب يصعد منه عمله، وباب ينزل منه رزقه، فإذا ماتَ بكيا عليه“.

نطلب من العلم تفسيرًا لكلّ ظاهرة كونية! كيف يفسر العلم هذه التأملات، وتعلق القلوب بالقلوب؟! لا يمكن تفسير علاقة الجماد بالإنسان إذا قلنا عن الجماد ميتًا لا حياة فيه! كيف يفسر العلم ماذا يصنع قلبٌ واحد بملايين القلوب؟ يطوّعهم شبانًا وشيبًا، ذكورًا وإناثًا! يأسرهم ويمشون مسلِّمين تحت الشمس في حرارةِ القيظ وثقلِ الشتاء! ومع كل ذلك التعب يتمنون أن يطولَ بهم الطريق ولا ينتهي!

لا يمكن تفسير ذلك إلا من باب، من أعطى اللهَ شيئًا أعطاه اللهُ كلّ شيء، وإذا كان ذلك الشيء روحًا وأهلًا وصحبًا ومالًا، فلا حدود آنذاكَ لعطاءِ الله.

مستشار أعلى هندسة بترول