آخر تحديث: 8 / 5 / 2024م - 10:51 م

معايير التفاضل

محمد أحمد التاروتي *

تشكل العناصر المادية مرتكزا أساسيا في عملية التفاضل، لدى بعض الفئات الاجتماعية، حيث تقاس قيمة المرء بما يمتلكه من رصيد مادي، سواء على المستوى الفردي أو الاجتماعي، فهذه المعايير المادية تشكل مدخلا أساسيا لتحديد موقعه على المستوى الاجتماعي، نظرا لوجود ثقافة قائمة اعتماد العناصر المادية، كعامل أساسي في تحديد الموقع في الساحة الاجتماعية، ”وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا «*» أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا“.

الاعتماد على معايير التفاضل المادية، يحدث خللا كبيرا في عملية البناء الاجتماعي، لاسيما وان العوامل المادية ليست عنصرا وحيدا في الارتقاء بالثقافة الاجتماعية، فهذه العناصر تبقى واحدة من منظومة متكاملة في البناء الاجتماعي، خصوصا وان الاحتكام إلى المادة في وضع المعايير يساعد في تكريس ”الظلم“، حيث تسهم في وضع عناصر غير قادرة على القيام بواجبها بالطريقة المطلوبة، فيما يجري استبعاد كفاءات قادرة على احداث تغييرات حقيقية في الوعي الاجتماعي، لاسيما وان العناصر المادية ليست قادرة على قراءة الفكر الإنساني بالشكل المناسب، نظرا للاعتماد على الأمور الملموسة، واغفال العوامل القادرة على تنمية الجانب الثقافي.

التفاخر بالمعايير المادية، وتجاهل الأسس الحقيقية للنهوض الاجتماعي، ينطلق في بعض الأحيان من سيطرة الفكر الاقصائي، الذي يحاول بسط النفوذ على الساحة الاجتماعية، من خلال الدفع باتجاه تكريس قناعاته على الواقع الاجتماعي، الامر الذي يدفعه لممارسة مختلف اشكال الاقصاء، تجاه العناصر الأخرى، وبالتالي فان الفكر الاقصائي المعتمد على المادة يحاول ”وضع أسس داعمه“، لحشد التأييد الشعبي بشتى الوسائل، فتارة من خلال تسفيه المعايير القادرة على احداث التغييرات الحقيقية في الثقافة الاجتماعية، وتارة أخرى بواسطة الاعلاء من شأن المعايير المادية، باعتبارها ”لغة العصر“، والقادرة على توفير أسباب الحياة لمختلف الفئات الاجتماعية.

القدرة على التأثير بالبيئة الاجتماعية، والخشية من التحولات الحقيقية على الصعيد الاجتماعي، بالإضافة إلى الخوف من فقدان النفوذ على الساحة الشعبية، عناصر أساسية في محاولة حرف الفكر الاجتماعي باتجاه المعايير المادية، لاسيما وان المصالح الشخصية تدفع لممارسة مختلف اشكال ”الخداع“، نظرا لوجود تهديدات حقيقية على الاطار الشخصي، الامر الذي يبرر انتهاج الوسائل الخادعة، لتكريس الواقع المادي في الفكر الاجتماعي، باعتباره الوسيلة الفضلى في الحفاظ على المكاسب، ومنع محاولات انتزاعها أو تقليصها، وبالتالي فان محاولة اعلاء شأن المعايير المادية مرتبط بالمخاوف، على المصالح في بعض الأحيان، وانعدام القدرة على الرؤية السليمة في أحيان أخرى، مما يدفع للتخبط والدخول في مسالك مظلمة، يصعب الخروج منها بسهولة.

تقسيم البيئة الاجتماعية على أسس مادية، والعمل على رفع قيمة المرء، تبعا لما يمتلكه من رصيد ملموس، يكرس الثقافة المغلوطة في الفكر الاجتماعي، خصوصا وان عملية الارتقاء بالمجتمع تقوم على التزاوج بين الفكر الثقافي والعناصر المادية، فيما الاعتماد على جانب دون اخر، يشوه المسيرة الاجتماعية، من خلال السير بطريقة عرجاء، بمعنى اخر، فان التحركات المدفوعة بالمعايير الخاطئة، لا تولد سوى خيبة الامل، وتكرس حالة الضياع الاجتماعي، نظرا لانعدام التوازن المطلوبة في النظرة تجاه الأمور، من خلال تغليب عناصر على حساب الاخر، مما يخرج مولود مشوه، ولا يمتلك القدرة على الاستمرار.

وضع معايير التفاضل المادية في المقدمة، مسلك غير صحي في عملية النهوض الاجتماعي، باعتبارها ثقافة معكوسة، وغير قادرة على تحديد الهوية الحقيقية للبيئة الاجتماعية، فالعناصر المادية لا تشكل قاعدة فكرية على الاطلاق، بقدر ما تحاول بناء طبقية على الاطار الاجتماعي، مما يسهم في تحريك العقول نحو التصنيف القائم على المكانة المادية، واستبعاد العناصر القيمية والمرتكزات الثقافية واقصاء الكفاءة من المنظور الاجتماعي، نظرا لوجود مسبقات قائمة على المعايير المادية في عملية التفاضل، وبالتالي احداث حالة من الانقسام الاجتماعي، المعتمد على المادة بالدرجة الأولى.

كاتب صحفي