آخر تحديث: 29 / 4 / 2024م - 1:36 م

فكرة تعارف الحضارات في مناهج التعليم العربي العام والعالي

الشيخ زكي الميلاد *

بيان وتوصيف

كسبت فكرة تعارف الحضارات حضورًا في مناهج تعليمية ومقرَّرات دراسية وتدريبية لدى بعض البلدان العربية مشرقية ومغربية، تنوَّعت هذه المناهج والمقرَّرات من ناحية المستوى شاملة التعليم العام وتحديدًا المرحلة الثانوية، والتعليم العالي شاملًا مراحل الليسانس والماستر والدكتوراه، إلى جانب المستوى التدريبي، وتراوحت هذه المناهج والمقرَّرات من ناحية الحقل المعرفي متعدِّدة بين التاريخ والفلسفة والحضارة.

بيانًا لهذا الأمر وتوثيقًا سوف أعرض له متتبِّعًا التدرُّج التعليمي ابتداء من التعليم العام ثم التعليم العالي بمراحله المتعاقبة، وانتهاء بالتعليم التدريبي. متطرِّقًا بعد هذا التوصيف والتوثيق مقدِّمًا بعض النتائج والمستخلصات. علمًا أنني قد بذلت جهدًا كبيرًا بقي مستمرًّا في تقصِّي هذا الأمر، وما وصلت إليه مثَّل مادة لها وزنها الكمي والكيفي، وجدت أنها تستحق العناية بها، والالتفات إليها، وإفراد الحديث عنها بيانًا وتحليلًا.

أولًا: تعارف الحضارات في التعليم العام الثانوي

أدرجت فكرة تعارف الحضارات في كتاب «التاريخ» المقرَّر الدراسي للصف الحادي عشر ضمن المرحلة الثانوية من التعليم العام في دولة الإمارات العربية المتحدة، حدث ذلك ابتداء من سنة 1430 هـ / 2009م. وقد جاءت هذه الخطوة في سياق تقديم كتاب «التاريخ» بحلة جديدة مندرجة في إطار خطط وزارة التربية والتعليم هناك لتطوير مناهج التعليم وتحديثها بما يواكب التطوُّرات والمستجدات التربوية في عالم اليوم، بما يتيح للمتعلِّم التعرُّف إلى واقعه المعاصر وطروحاته بمنظور شمولي متكامل ومتَّزن للقضايا والمشكلات المعاصرة.

هذا الكتاب تكوَّن من جزأين، الجزء الأول تكوَّن من وحدتين موسَّعتين هما: التواصل الحضاري بين الحضارات الإنسانية، وقضايا عالمية معاصرة. وتكوَّنت الوحدة الأولى من درسين، الدرس الأول حمل عنوان: «العلاقات المتبادلة بين الحضارات الإنسانية»، والدرس الثاني حمل عنوان: «أسس العلاقات بين الحضارات الإنسانية».

حدَّد الكتاب الناتج التعليمي المتوقَّع بعد دراسة الوحدة الأولى، بأن يفهم المتعلِّم العلاقة بين الحضارات الإنسانية عبر العصور التاريخية بمجالاتها المختلفة، كما حدَّد الكتاب مؤشرات الأداء مبيِّنًا خمسة مؤشرات هي:

1 - يلخص المتعلِّم أهم نتاجات التفاعل الحضاري بين الحضارات الإنسانية.

2 - يستخدم المتعلِّم مهارات التفكير العليا ومنها: العصف الذهني والتطبيق في دراسته للعلاقات المتبادلة بين الحضارات الإنسانية.

3 - يطبق المتعلِّم مهارات التفكير الناقد لينظم ويستخدم المعلومات المكتسبة من مصادر تاريخية متنوِّعة بما فيها الشبكة المعلوماتية.

4 - يتواصل المتعلِّم شفهيًّا وكتابيًّا وبصريًّا مع الآخرين.

5 - يُعبِّر المتعلِّم عن اعتزازه بدولته ودورها في التواصل الحضاري مع الحضارات الأخرى [1] .

كما حدَّد الكتاب كذلك مهارات هذه الوحدة، تمثَّلت في مجموعة عناصر هي: التفكير الناقد، التواصل مع الآخرين، قراءة النص التاريخي، جمع المعلومات من المراجع والشبكة المعلوماتية، التشابه والاختلاف، العصف الذهني، التوسُّع، التوقُّع، التطبيق، التحليل، الربط. أما قيم الوحدة فتمثَّلت في: التعايش السلمي، الحوار، الاحترام، العمل المنتج، التعارف، العدل، المساواة، الشورى، الانتماء.

وبالنسبة لفكرة التعارف فقد حضرت في الدرس الثاني الموسوم بعنوان: «أسس العلاقات بين الحضارات الإنسانية»، وجاء الحديث عن هذه الفكرة ضمن فقرة بعنوان: «نظريات التفاعل الحضاري»، تطرَّقت إلى أربع نظريات تحدَّدت بهذا النص:

أولًا: نظرية صراع الحضارات من وجهة نظر صمويل هنتنغتون.

ثانيًا: نظرية حوار الحضارات من وجهة نظر روجيه غارودي.

ثالثًا: نظرية نهاية التاريخ من وجهة نظر فرانسيس فوكوياما.

رابعًا: نظرية تعارف الحضارات من وجهة نظر زكي الميلاد.

قدَّم الكتاب شرحًا موجزًا عن هذه النظريات الأربع، وقد استند في شرح فكرة التعارف إلى كتاب: «تعارف الحضارات»، مقسِّمًا هذا الشرح إلى نقطتين، متحدِّدًا بهذا النص: يقول زكي الميلاد «في كتابه «تعارف الحضارات»:

1 - إن تعارف الحضارات نظرية مستنبطة من القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [2] . إن الحديث في هذه الآية عن شعوب وقبائل وليس عن أفراد، بمعنى أن الحديث عن أمم ومجتمعات؛ لذلك جاز لنا تطبيق هذا المفهوم على مستوى الحضارات.

2 - إن هذه النظرية جاءت لإنشاء شكل العلاقات المفترضة بين الناس كافة، مهما تعدَّدت وتنوَّعت أعراقهم وسلالاتهم ولغاتهم وألسنتهم ودياناتهم ومذاهبهم وتاريخهم وجغرافياتهم؛ لذلك يعتبر التعارف هو الذي يُؤسِّس لأشكال الحوار ومستوياته ودرجاته. لذا يعتبر التعارف أسبق من الحوار؛ لأنه هو القاعدة التي تُؤسِّس أرضياته، ومثال ذلك: تجربة التحوُّل التي حصلت للمغول الذين بدؤوا بغزو، كان من نتائجه تدمير الحضارة الإسلامية، ولكنهم وبعد زمن من السيطرة والتواجد بين المسلمين انتهوا إلى اعتناق الدين الإسلامي، وساهموا في بناء الحضارة الإسلامية» [3] .

بعد هذا الشرح قدَّم الكتاب زاوية بعنوان «نشاط» استهدف منها مهارة التشابه والاختلاف، تحدَّد هذا النشاط في الإجابة عن السؤال الآتي: استخرج أوجه التشابه والاختلاف بين كل من نظرية «صمويل هنتنغتون وروجيه غارودي»، و«فرانسيس فوكوياما وزكي الميلاد» حول التفاعل الحضاري؟

وفي نهاية الوحدة قدَّم الكتاب تقويمًا عامًّا تكوَّن من خمسة أسئلة، السؤال الأول تعلَّق بالنظريات الأربع، وتحدَّد بهذا النص: قارن بين نظريات التفاعل الحضاري من حيث: أوجه المقارنة: صمويل هنتنغتون - روجيه غارودي - فرانسيس فوكوياما - زكي الميلاد، اسم النظرية؟ أشهر المؤلفات؟ أهم ما يُميِّز كل نظرية؟

وآخر ما ختمت به هذه الوحدة، فقرة بعنوان: «مشروع الوحدة»، يراد به تكليف طلبة الفصل بإعداد ندوة تاريخية، وقد شرح الكتاب هذه الفقرة بالنص الآتي: «بالتعاون مع زملائك في الفصل قم بالمشاركة في إعداد ندوة تدور حول أسس العلاقات الإنسانية بين الحضارات «التعايش السلمي - الحوار - التعارف - العولمة»، واعرض أهميتها في تحقيق السلام العالمي بين الحضارات الإنسانية في جميع المجالات» [4] .

ثانيًا: تعارف الحضارات في مرحلة الليسانس

أعدَّت الدكتورة الجزائرية هجيرة شبلي - أستاذ محاضر - مقرَّرًا دراسيًّا بعنوان: «فلسفة الحضارة»، موجَّهًا لطلبة السنة الثانية مرحلة ليسانس فلسفة، ومسجّلًا في قسم الفلسفة بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية جامعة محمد لمين دباغين - سطيف الثانية، في ولاية سطيف شرق الجزائر، وقامت بتدريسه لمدة سنتين متتاليتين امتدَّت بين «2016 - 2018م».

هذا المقرَّر الدراسي تكوَّن من مقدِّمة وخاتمة، ومن أربع عشرة محاضرة، يقع في «134» صفحة من القياس الكبير، حملت المحاضرة الثالثة عشرة عنوان: «نظرية تعارف الحضارات»، وهي تقع في ست عشرة صفحة امتدَّت بين «102 - 117»، وتكوَّنت هذه المحاضرة من ثلاثة محاور أساسية تحدَّدت بهذه العناوين:

أولًا: بواكير فكرة تعارف الحضارات عند زكي الميلاد.

ثانيًا: المنطلقات المنهجية لصياغة مفهوم تعارف الحضارات.

ثالثًا: مرتكزات نظرية تعارف الحضارات.

في المحور الأول تطرَّقت الباحثة إلى أمرين هما: دلالات التعارف لغةً واصطلاحًا، وبواعث وأهداف تعارف الحضارات. وفي المحور الثاني رأت الباحثة أن تأسيس مفهوم تعارف الحضارات ارتكز على ثلاثة عناصر هي: الفحص والنقد، الأصل والمثال، القياس والاختبار. وفي المحور الثالث درست الباحثة مرتكزات نظرية تعارف الحضارات مستندة إلى طريقتين: تحليلية وتركيبية.

وختمت الباحثة المحاضرة بخلاصة قرَّرتها قائلة: «بناء على ذلك فإن نظرية تعارف الحضارات تعدّ من أنضج النظريات التي تسعى إلى رسم صورة أفضل لمستقبل العلاقة بين الحضارات في زمن العولمة، من حيث إنها قدّمت لنا إطارًا واضحًا عن شكل العلاقة المفترض بين الحضارات من جهة، ومن جهة أخرى طبيعة الأصل الذي اعتمدت عليه في ذلك. يمكن أن نُلخِّص نظرية زكي الميلاد في النقاط التالية:

الأول: نقدي، تبلور في النقد المنهجي والبنّاء الذي وجَّهه الميلاد لجملة المقولات الرائجة والمتمثِّلة في صدام الحضارات وحوار الحضارات اللذين ينتميان إلى المجال الغربي ويتحدَّدان به، بالإضافة إلى ظاهرة العولمة التي استحوذت على أوسع اهتمام عالمي، وهنا أراد الميلاد أن يُبرز الرؤية الإسلامية للعولمة من خلال عالمية الإسلام.

الثاني: تأسيسي، تجسَّد في دراسة ما أسماه الميلاد بآية التعارف، مستنبطًا منها العناصر التجزيئية والتركيبية المقوِّمة لنظرية التعارف، والتي من أهدافها التخلُّص من رواسب الصدام والوصول بنا إلى حوار الحضارات. وبهذا تحدَّد مفهوم التعارف في التواصل الكوني والانفتاح العالمي على مستوى الأمم والحضارات، وربط هذا المفهوم بوحدة الأصل الإنساني، وبقاعدة تنوُّعه، وأكرمية التقوى.

الثالث: في الأخير عمد زكي الميلاد إلى التحقق من قيمة فكرة التعارف، فلجأ إلى قياس واختبار الفكرة في المجال التداولي بعد الإعلان عنها، فكانت نتيجة الاختبار: أن حظيت الفكرة باهتمام واسع لدى النخب العلمية» [5] .

ثالثًا: تعارف الحضارات في مرحلة الماستر

تم إدراج فكرة تعارف الحضارات في جامعات الجزائر على مستوى الماستر في تخصصين من تخصصات العلوم الإنسانية والاجتماعية، هما: فلسفة عربية وإسلامية، وفلسفة تطبيقية. في التخصص الأول أدرجت فكرة التعارف في مادة «فلسفة التاريخ والحضارة»، موجَّهة لطلبة الماستر في السنة الثانية، وتُقدَّم بوصفها وحدة أساسية يتوجَّب على الطالب النجاح فيها، ولها من الرصيد خمس نقاط، ورتبتها في المعامل الدرجة الثانية.

في نطاق هذه المادة، سوف نعرض لنموذجين تمكَّنت من تحصيل المادة الكاملة المخصصة للحديث عن تعارف الحضارات، هذان النموذجان هما:

النموذج الأول: ينتسب مكانًا إلى ولاية الشلف غرب الجزائر، متَّصلًا بجامعة حسيبة بن بوعلي، متمثِّلًا في ملخَّص عرضته الجامعة في صفحتها الإلكترونية، متحدِّدًا بهذا النص: «تتمحور المفردات المعرفية لهذا المقياس حول قضايا فلسفة التاريخ والحضارة وجدل العلاقة بينهما من خلال بعض الشخصيات الفكرية البارزة. والمعارف المسبقة المطلوبة لتغطية محتوى هذه القضايا هي: فلسفة إسلامية، فلسفة غربية حديثة ومعاصرة، فكر عربي حديث ومعاصر.

وتتوزَّع محتويات المادة المعرفية للمقياس على النحو التالي:

1 - مفهوم فلسفة التاريخ والحضارة.

2 - تطوُّر فلسفة التاريخ والحضارة «أوغستين، ابن خلدون، فيكو، هيجل».

3 - فكرة تعاقب الحضارات عند ابن خلدون.

4 - فلسفة الحضارة عند مونتيسكيو.

5 - أرنولد توينبي والحضارة.

6 - سقوط الحضارة عند شبنجلر.

7 - ثلاثية البناء الحضاري عند مالك بن نبي.

8 - حوار الحضارات عند روجيه غارودي.

9 - فكرة صراع الحضارات عند هنتينغتون.

10 - تعارف الحضارات عند زكي الميلاد».

وهذا النص بتمامه موجود كذلك في مقرَّر الماستر بجامعة عمار ثليجي بولاية الأغواط جنوب الجزائر، مؤرّخًا للسنة الجامعية «2017 - 2018م»، متحدِّدًا في صفحة «50».

الدكتور عبدالقادربلعالم هو أستاذ المادة في جامعة الشلف، وقد أعد نصًّا مكتوبًا مدوّنًا في صفحة الجامعة الإلكترونية بعنوان: «المحاضرة العاشر: تعارف الحضارات عند زكي الميلاد»، أبرزت هذه المحاضرة في المقدّمة تعارف الحضارات بوصفها أطروحة جاءت في سياق تسابق النماذج لتقويم التحوُّلات العالمية واستشراف المستقبل، مستعينة بالموروث الديني وإحيائه، سعيًا لحل أزماتنا ومشاكلنا، وأملًا بأن تكون لدينا القدرة على النهوض بواقعنا. وقد توقَّف المحاضر عند الأصل القرآني الذي استندت إليه أطروحة التعارف، مبيِّنًا ومفصِّلًا الحديث عن تلك الحقائق الكلية ذات الأبعاد الإنسانية العامة المستخلصة من آية التعارف في سورة الحجرات.

ثم توقَّف المحاضر عند فقرة حدَّدها بعنوان: «تعارف الحضارات والبناء المعرفي»، أشار فيها إلى ما كنتُ قد طرحتُه بشأن التجاور بين مفهوم التعارف ومفهوم التواصل عند المفكّر الألماني يورغن هابرماس، منتقلًا بعد ذلك إلى الحديث عمَّا يعترض أطروحة التعارف من صعوبات معرفية في المجال العربي خصوصًا.

وختم المحاضر محاضرته منتهيًا إلى خلاصة نقلها عني، قرَّرها قائلًا: «وأخيرًا فإن مقولة «تعارف الحضارات»، لا تعني مجرَّد الاعتراف بتعدُّد الحضارات وتنوُّعها، وإنما ترتكز على ضرورة تقدُّم الحضارات في العالم، وتأسيس الشراكة الحضارية فيما بينها، وتبادل المعرفة والخبرة، فالعالم ليس بحاجة إلى حضارة واحدة، وإنما إلى استنهاض الحضارات كافة. لهذا فإن مفهوم «تعارف الحضارات» أكثر ضبطًا وصوابًا من مفهوم حوار الحضارات، وأوضح تعبيرًا عن الرؤية الإسلامية في هذا الشأن، وأن التعارف هو الذي يُؤسِّس للحوار وينهض به، وما تحتاج إليه الحضارات في عالم اليوم هو التعارف الذي يرفع الجهل بصوره كافة، الجهل المسبِّب للصدام بين الحضارات، في المقابل أن التعارف هو الذي حافظ على تعاقب الحضارات في التاريخ الإنساني».

وفي نهاية النص أشار المحاضر إلى مراجع المحاضرة، وحدَّدها في ثمانية أعمال مؤلفات ومقالات، منها اثنان من أعمالي هما: كتاب: «المسألة الحضارية.. كيف نبتكر مستقبلنا في عالم متغيِّر؟» الصادر سنة 1999م، ومقالة: «تعارف الحضارات.. الفكرة والخبرة والتأسيس» المنشورة سنة 2013م في مجلة «الحوار الثقافي» الصادرة عن كلية العلوم الاجتماعية بجامعة عبدالحميد بن باديس في ولاية مستغانم غرب الجزائر.

النموذج الثاني: ينتسب مكانًا إلى ولاية عنابة شمال شرق الجزائر، متَّصلًا بجامعة باجي مختار، متمثِّلًا في مادة علمية أعدَّتها الدكتورة حنان بوزينة، تكوَّنت هذه المادة من ثلاثة محاور أساسية تحدَّدت بهذه العناوين:

المحور الأول: التفسير اللاهوتي للتاريخ «اليهودية - المسيحية - الإسلام»، يتضمَّن هذا المحور مجموع التفاسير الدينية للتاريخ.

المحور الثاني: نظريات تفسير التاريخ: يتضمَّن هذا المحور نظريات تفسير التاريخ من نظرية الفعل الإنساني، إلى نظرية التعاقب الدوري، بالإضافة إلى التفسير البيولوجي للتاريخ، وأخيرًا نظرية التحدِّي والاستجابة في تفسير التاريخ.

المحور الثالث: قضايا فلسفة الحضارة: في هذا المحور جرى تناول أهم المسائل الحضارية من مشكلات وحلول، متوقّفين عند أهم النظريات التي تناولت الحضارة بجميع أبعادها. وقد تمثَّلت هذه النظريات في: حوار الحضارات لروجيه غارودي، صراع الحضارات لصمويل هنتنغتون، بالإضافة إلى الإسلام ومشروع تعارف الحضارات لزكي الميلاد.

كما تضمَّنت هذه المادة العلمية بيانًا تفصيليًّا حول تعارف الحضارات ورد في المحاضرة السادسة الموسومة بعنوان: «الحضارات بين تحدِّيات الحوار والصدام والتعارف»، وتكوَّنت من ثلاثة أجزاء جاءت بهذا النحو:

الجزء الأول: حوار الحضارات عند روجيه غارودي.

الجزء الثاني: صدام الحضارات عند صمويل هنتنغتون.

الجزء الثالث: تعارف الحضارات عند زكي الميلاد.

تطرَّق هذا الجزء الثالث في المقدِّمة مبيِّنًا الفضاء المعرفي العربي والإسلامي الذي تنتمي إليه فكرة التعارف، متحدِّدة بمجال العلاقات بين الحضارات، ساعية لبناء هذه العلاقات على أساس المعرفة المتبادلة من خلال بناء جسور التعارف لإزالة كافة صور الجهل، والتخلُّص من كل رواسب القطيعة ومسبِّبات الصدام.

ثم انتقلت المحَاضرة متحدِّثة عن الأصل القرآني الذي ارتكزت عليه فكرة التعارف، متمثِّلًا في آية التعارف، مبيِّنة الجوانب الكلية والأبعاد الإنسانية العامة المضمَّنة في هذه الآية والمستنبطة منها. بعد ذلك تطرَّقت المحَاضرة إلى أسس فكرة التعارف متحدِّدة في أسس دينية وثقافية وسياسية واقتصادية.

وفي الخاتمة انتهت المحاضرة إلى خلاصة عامة قرَّرتها بهذا النص: «ختامًا يمكننا القول: إن مقولة تعارف الحضارات قد نجحت على المستوى المعرفي والمفاهيمي، ودُرست وما تزال تُدرس من قبل الكثير من المفكرين والباحثين العرب، وهذا ما يزيدها غنى وتألُّقًا. أما على المستوى العملي فإن مسألة التعارف كمقولة ما زالت تحتاج إلى آليات واقعية، وخطوات عملية واضحة، للوصول إلى تحقيق الأهداف المنوطة بها، وبالطبع هذا لا ينقص من قدرها. وعلى الرغم من أهمية نظرية تعارف الحضارات على مستوى الفكر والتنظير، لكن الواقع يثبت أنه من الصعوبة بمكان أن تنزل هذه النظرية إلى مستوى الواقع الفعلي والعملي. وذلك بسبب الاختلاف في آليات الخطاب العربي الإسلامي من جهة، والخطاب الغربي من جهة أخرى. وهذا الخلاف ناتج عن الاختلاف في الرؤى والمفاهيم والمنطلقات الفكرية والأيديولوجية، والنظرة السلبية لكل طرف عن الآخر. وهذه الخلافات متجذِّرة ومتأصِّلة في البناء التراكمي داخل المنظومتين الفكريتين، بشكل يجعل مسألة الحوار أو التعايش أو حتى التعارف مسألة من الصعوبة بمكان نقلها من حيِّز الوجود بالقوة «بالإمكان» إلى حيز الوجود بالفعل «في الواقع الحياتي المعاش». بناء على ذلك يبقى التساؤل قائمًا حول: شكل العلاقة بين الحضارات وعن آليات هذه العلاقة ومستقبلها؟ تبقى الأسئلة مطروحة، ويمكن أن تتمخَّض عنها أسئلة أخرى، وتبقى - أيضًا - الإجابات مفتوحة وقابلة للتطوُّر».

التخصص الثاني: فلسفة تطبيقية

اعتمدت وزارة التعليم العالي في الجزائر ابتداء من سنة 2018م تقريبًا برنامجًا موحَّدًا لمرحلة الماستر تخصص فلسفة تطبيقية، وجرى تعميم هذا البرنامج والعمل به في جميع الجامعات الجزائرية بكليات العلوم الإنسانية والاجتماعية. في هذا التخصص أدرجت فكرة التعارف ضمن مادة بعنوان: «منهجيات الحوار وأخلاقيات التواصل»، موجَّهة لطلبة الماستر في السنة الثانية، وتُقدَّم بوصفها وحدة منهجية، لها من الرصيد ثلاث نقاط، ورتبتها في المعامل الدرجة الثانية، وطريقة تقييمها تتم عبر التقييم المتواصل بالإضافة إلى الامتحان.

وقد وضع البرنامج أهدافًا لتعليم هذه المادة، حدَّدها بهذا النحو:

«• ترسيخ قواعد التفكير النقدي وشروط الحوار العقلاني.

• ترسيخ قيمة تعدُّدية الحقيقة وإتقان فلسفة الاختلاف والاعتراف.

• جعل العديد من المفاهيم كالاختلاف والتسامح والاعتراف تأخذ مكانها وبعدها الحقيقي ضمن التفاعلات الحوارية.

• الارتقاء بالطالب إلى مستوى الحوار الجاد بامتلاك الحجج المنطقية والآليات المنهجية التي تمكّنه من حل مشاكله بالطرق السلمية» [6] .

هذه المادة تكوَّنت من ثلاثة محاور أساسية تحدَّدت بهذا النص: «المحور الأول: الحوار: مفهومه، وسائله، غايته.

المحور الثاني: منطق العلاقة بين الحضارات: نظرية الصدام، نظرية التواصل، نظرية التعارف، نظرية التدافع.

المحور الثالث: أطروحة تعارف الحضارات: الوحدة البشرية، النزعة الإنسانية المفتوحة، الكرامة الإنسانية» [7] .

وفي امتحانات هذه المادة حضرت فكرة التعارف، وفي هذا النطاق يمكن الإشارة إلى نموذجين:

النموذج الأول: ورد في جامعة الجزائر الثانية، وتحدَّد السؤال بطريقة اختر موضوعًا واحدًا، عارضًا موضوعين، الموضوع الثاني تعلَّق بفكرة التعارف متحدِّدًا بهذا النص: «الموضوع الثاني: يقول زكي الميلاد: «التعارف هو أرقى المفاهيم، وأكثرها قيمة وفعالية، ومن أشد وأهم ما تحتاج إليه الأمم والحضارات، وهو دعوة لأن تكتشف وتتعرَّف كل أمة وكل حضارة على الأمم والحضارات الأخرى، بلا سيطرة أو هيمنة أو إقصاء أو تدمير. والتعارف هو الذي يحقق وجود الآخر ولا يُلغيه، ويُؤسِّس العلاقة والشراكة والتواصل معه لا أن يقطعها أو يمنعها أو يقاومها».

ما هي أسس نظرية التعارف عند زكي الميلاد؛ وما هي أهم الانتقادات التي واجهتها؟».

النموذج الثاني: ورد في جامعة قالمة، وتحدَّد السؤال بطريقة أجب عن الأسئلة، وتعلَّق السؤال الثاني بفكرة التعارف متحدِّدًا بهذا النص: «استند الكثير من مفكري العرب إلى القرآن الكريم في بناء نظريات حضارية، ومن بينهم زكي الميلاد الذي نسج تصوُّرًا حضاريًّا أسماه نظرية التعارف الحضاري، وعليه: بَيِّنْ الأسس الكبرى لهذه النظرية؟ حدِّد الخطوط الكبرى لهذه النظرية؟».

وضمن هذا النطاق كذلك فقد أخبرني الدكتور قويدري الأخضر في رسالة إلكترونية مؤرَّخة بتاريخ 29 يونيو 2022م، أنه قام بتدريس نظرية تعارف الحضارات بدءًا من سنة 2011م، عندما فتح مشروع فلسفة الحضارة بجامعة عمار ثليجي في ولاية الأغواط الجزائرية، وتم التطرُّق لهذه النظرية في المحور الثالث الرئيسي الموسوم بعنوان: «البناء الحضاري في العالم العربي»، وذلك بالاستناد إلى كتاب: «المسألة الحضارية.. كيف نبتكر مستقبلنا في عالم متغيِّر؟»، كما تم خلال الأعمال التطبيقية الموجَّهة إنجاز بحوث مختصرة قام بها الطلبة حول هذه النظرية من أجل التعمُّق في فهمها.

رابعًا: تعارف الحضارات في مرحلة الدكتوراه

أدرجت جامعة الشارقة في دولة الإمارات العربية فكرة التعارف في مرحلة الدكتوراه بقسم التاريخ والحضارة الإسلامية في كلية الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية. وقد حضرت هذه الفكرة في المساق الموسوم بعنوان: «دراسة في تاريخ الحضارات»، وتحدَّد هذا المساق بهذا الوصف: «يحدّد المساق مفهوم الحضارة، وتصنيف الحضارات والإشكالات المثارة حولها، كما يتناول نظريات العلاقة بين الحضارات في عصر العولمة، ويعرض بعض النظريات المهمَّة حول نشوء الحضارات وأفولها ويقارن بينها، ويتطرَّق إلى التفاسير المختلفة لذلك، ومن هذه النظريات: نظرية الصدام «فرانسيس فوكوياما ونظريته نهاية التاريخ، صمويل فلبس هنتنغتون ونظرية صراع الحضارات»، ونظريات الحوار: «الحوار بين الأديان أنموذجًا»، ونظرية التعارف عند علماء المسلمين: ابن خلدون «ت 1405م»، البيروني «ت 1048م»، الإدريسي «ت 1166م».

ثم يعرج على إبراز العلاقات بين الحضارات المختلفة عبر التاريخ، مع التركيز على طبيعة العلاقة في العصر الراهن. مع التركيز على تجربة الحضارة العربية الإسلامية في الحوار مع الحضارتين اليونانية، الفارسية، والهندية، ونظريات في قيام الحضارات وسقوطها عند المسلمين وعند الغربيين دراسة مقارنة: ابن حزم «ت 1064م»، ابن خلدون «ت 1405م»، أبو بكرالطرطوشي «ت 1127م»، ابن الأزرق «ت 1491م»».

خامسًا: تعارف الحضارات في مرحلة التعليم التدريبي

أعدَّت أكاديمية الحوار للتدريب التابعة لمركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني في العاصمة السعودية الرياض، مادة علمية للتعليم والتدريب بعنوان: «الحوار الحضاري»، استهدفت منها نشر ثقافة الحوار الحضاري، وإكسابًا لمهاراته، ورفعًا لمستوى وعي المجتمعات بالمصير الإنساني المشترك بين الحضارات.

هذا البرنامج الذي يستهدف جميع شرائح المجتمع، تكوَّن من خمس وحدات تعليمية وتدريبية، وقد حضرت فكرة التعارف في الوحدة الثانية الموسومة بعنوان: «نظرية الحوار الحضاري»، التي احتوت على أربعة محاور تحدَّدت بهذه العناوين: السياق التاريخي لحوار الحضارات، منطلقات الحوار الحضاري، بيئات الحوار الحضاري ومجالاته، معوِّقات الحوار الحضاري. في هذا المحور الأخير اتَّجه الحديث متحدِّدًا بعنوان: «معوِّقات تعارف الحضارات»، متطرِّقًا إلى أربعة معوِّقات هي: العائق العقائدي، تضخيم الذات الحضارية، نظريات الصراع والصدام، هيمنة المفهوم السياسي [8] .

كما حضرت فكرة التعارف، وجرى الحديث عنها، والتأكيد عليها، في المحاور والوحدات الأخرى، فعند الحديث عن السياق التاريخي لحوار الحضارات، ورد نص بالغ الدلالة، مبيِّنًا ما سجَّلته الكتابات التاريخية في التأكيد على تعارف الحضارات، وبحسب النص «لقد كان التعارف الثقافي والعلمي من أبرز ما سجَّلته المؤلفات التاريخية التي تُؤكِّد أن الحضارات العالمية ما هي إلَّا سلسلة من التعارف المطَّرد بينها وبين الحضارات الأخرى، فالثقافة الإغريقية أصلها في الفلسفة الإغريقية التي ولدت في آسيا الوسطى، كما تأثَّر الفلاسفة والمؤرِّخون اليونان بمصر وأُعجبوا بها إعجابُا عظيمُا التي كانت تمثِّل نموذجًا لدى أفلاطون. كما اهتمت الحضارة الإسلامية بالآخر، فاعتنى خلفاء المسلمين بالميراث العلمي للأمم الأخرى، فظهرت حركة ترجمة العلوم والمعارف، ومنها: المؤلفات اليونانية في مجالي الفلسفة والعلم التجريبي، والمؤلَّفات الهندية والفارسية وغيرها، ممَّا كان له دور في التعريف بهذه الأمم لأبناء الحضارة الإسلامية، وتقاربهم معها حتى عُدَّت البلاد الإسلامية أرضًا خصبة لتقابل أبناء الأمم الأخرى» [9] .

سادسًا: تعارف الحضارات في مشاريع بحثية جامعية

أعلنت وحدة الدراسات والبحوث بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية في جامعة قطر سنة 2022م عن محتوى المشاريع البحثية المعتمدة لديها، وقامت بنشرها في صفحتها الإلكترونية، مضمِّنة فكرة التعارف في قائمة محاور هذه المشاريع، متعيِّنة في المحور الثالث: «قضايا في الواقع المعاصر»، ومتحدِّدة بعنوان: «التعارف الحضاري بأبعاد جديدة».

وقد عرَّفت الكلية هذه المشاريع بهذا النحو: «يقصد بالمشاريع البحثية مجموعة كبرى من المحاور والقضايا والمفردات البحثية التي يُنظِّمها إطار معرفي ومنهجي وسياقي واحد، تقبل الإنجاز الموزَّع على مجموعة من الباحثين من أساتذة الكلية، ومن طلبة الدراسات العليا والكتَّاب في المجلات والمشاركين في الندوات والورشات والجوائز وغيرها».

ولهذا الغرض - وبحسب النص - فقد عقدت وحدة البحوث والدراسات في كلية الشريعة ورشة لمدة ثلاثة أيام، شارك فيها خبراء دوليون من رموز العلوم الشرعية والفكر، أُتبعت بلقاءات عن بُعد ومشاورات كثيرة، تم التوصُّل من خلالها إلى عدد من هذه المشاريع، توزَّعت مفصَّلة في ثلاثة محاور هي: قضايا في المنهج الشرعي تأصيلًا وتنزيلًا، قضايا في المنهج الفكري الإسلامي، قضايا في الواقع المعاصر. وضمن هذا المحور الثالث تعيَّنت فكرة التعارف، موسومة بعنوان: «التعارف الحضاري بأبعاد جديدة».

-2 -

نتائج ومستلخصات

استنادًا إلى هذا التوثيق المبيّن لمدى حضور فكرة تعارف الحضارات في مناهج التعليم العام والعالي، وبعد الفحص والنظر يمكن تسجيل النتائج والملاحظات الآتية:

أولًا: كشف هذا التوثيق كمًّا وكيفًا عن مسار مهم من مسارات تطوُّر فكرة تعارف الحضارات، مكتسبًا أهمية كبيرة كونه يتَّصل بنظام التعليم الذي يتجلَّى فيه ما يُعرف في الدراسات الاجتماعية والحضارية بروح الأمة، وترى فيه الأمم والمجتمعات ذاتيتها وشخصيتها، به تحافظ على وحدتها، ومن خلاله ترسخ استقلالها، وبواسطته تبني أجيالها وتحمي هويتها، فهو مصدر تعليم الأمة وتهذيبها وتثقيفها، ومن ثَمَّ فهو منبع قوَّتها، ومقياس تقدُّمها، ومؤشِّر دالٌّ على مستقبلها.

وما يؤكِّد أهمية هذا الأمر، وقيمة هذا المسار، أن فكرة التعارف حضرت في مناهج التعليم بمراحله المختلفة شاملًا العام والعالي والتدريبي، والمستوى العالي شاملًا الليسانس والماستر والدكتوراه، ومرحلة الماستر متفرِّعة إلى تخصصين هما: فلسفة عربية وإسلامية، وفلسفة تطبيقية. بما يعني أن الحاجة لهذه الفكرة قد لوحظت وتأكَّدت في مختلف هذه المستويات التعليمية.

لا شك أن هذا المسار جاء معبِّرًا عن جدية فكرة التعارف وتخلُّقها من جهة، ومدعِّمًا لهذه الفكرة ومعزِّزًا من جهة أخرى. فجدية هذه الفكرة وتخلُّقها هي التي حفَّزت على هذا النوع من الاهتمام تقبُّلًا وتفهُّمًا واعتمادًا، والسماح لها بأن تكون جزءًا من منظومة الأفكار التعليمية والتدريبية. ولو لم تكن هذه الفكرة بهذه الجدية وبهذا التخلُّق لما حدث قطعًا هذا المستوى من العناية بها، ولما سجّلت هذا المستوى من الحضور في مناهج التعليم بمراحله المختلفة.

من جانب آخر، أسهم هذا المسار وبقوة في تدعيم فكرة التعارف وتعزيزها، فليس هناك ما هو أقوى وأفضل من المناهج التعليمية في تدعيم الأفكار وتعزيزها، وذلك لما يتاح للأفكار في التعليم من أبعاد توجيهية وتربوية وتثقيفية وتدريبية، وهي الأبعاد المؤثِّرة التي قد تفتقدها الأفكار خارج البيئة التعليمية.

كما أن هذا المسار أسهم - أيضًا - في جعل فكرة التعارف حاضرة في المجال التداولي التعليمي، يتحدَّث عنها الطلاب في مراحلهم التعليمية المختلفة، ويتناقشون حولها، متبادلين وجهات النظر، وملتفتين إليها، ومتبصِّرين بها، ومتفاعلين معها بصور مختلفة.

وهذا ما وجدته بنفسي عند بداية التعرُّف إلى كتاب التاريخ في دولة الإمارات العربية، فقد لاحظت من خلال محرِّكات البحث الإلكترونية أن بعض الطلبة هناك يتساءلون عن اسمي وعن تعارف الحضارات في منتدى تعليمي إلكتروني خاص بهم، ولم يكن لديَّ آنذاك معرفة بإدراج الفكرة في المقرَّر الدراسي، فتواصلت عبر البريد الإلكتروني مع الصديق الدكتور سعيد حارب مستوضحًا هذا الأمر، ولماذا هؤلاء الطلبة تحديدًا هم الذين يتساءلون، وبعد أيام قليلة تسلَّمت بواسطة البريد السريع طردًا محتويًا على نسختين من كتاب «التاريخ» الصف الحادي عشر مكوَّن من جزأين، متضمِّنًا الإشارة إلى فكرة التعارف، ضمن فقرة بعنوان: «تعارف الحضارات من وجهة نظر زكي الميلاد».

وما ننتهي إليه في هذه الملاحظة، أن دراسة فكرة التعارف وتكوين المعرفة بها والتعامل معها، لا يمكن أن تكون بعيدةً عن هذا المسار الحيوي، أو من دون الالتفات إليه، أو التوقُّف عنده، لكونه مسارًا مهمًّا وحيويًّا في تطوُّر فكرة التعارف وتقدُّمها.

ثانيًا: جاءت فكرة التعارف وسدَّت فراغًا مهمًّا في المجال العربي، وعلى مستوى التصوُّر الإسلامي، متَّصلًا بنطاق دراسة الحضارات وأنماط العلاقات بينها. فقد عُدَّت هذه الفكرة منتسبة إلى المجال العربي، ومنتمية إلى فضاء التصوُّر الإسلامي، مكوِّنة نظرية حضارية جادَّة، أصبحت تجاور النظريات الأخرى، وتُقارن معها في هذا الشأن الحضاري العام.

قبل انبثاق فكرة التعارف كانت النظريات الغربية هي السائدة والمهيمنة والمتفرِّدة تقريبًا بالحديث عن صور العلاقات بين الحضارات وأنماطها، متحدِّدة بصورة رئيسة في ثلاث نظريات كبرى هي: نظرية حوار الحضارات منتسبة إلى المفكر الفرنسي روجيه غارودي «1913 - 2012م»، ونظرية صدام الحضارات منتسبة إلى المفكر الأمريكي صمويل هنتنغتون «1927 - 2008م»، ونظرية نهاية التاريخ منتسبة إلى المفكر الياباني الأصل فرانسيس فوكوياما.

دراسة هذه النظريات الغربية والاكتفاء بها، لم يكن مشجِّعًا دائمًا لا أقل بالنسبة لشريحة أكاديمية، لأن الدراسة عندئذٍ ستكون منحصرة بنطاق الأفق الفكري الغربي بعيدًا عن حضور الأفق الفكري العربي والإسلامي، بناء على خلفية - قد تكون منظورة لدى بعضٍ - ترى ما قيمة الدراسة إذا كانت منحصرة بالنظريات الغربية التي تُعزِّز هيمنة الأفق الفكري الغربي، وتُظهر الفكر العربي والإسلامي بمظهر الضعف، أو تضعه في دائرة الموقف الحرج، حين لا تكون هناك فكرة أو أطروحة أو نظرية لها صفة الانتساب إلى أفق الفكر العربي والإسلامي.

وبعد انبثاق فكرة التعارف والتثبُّت من جدّيتها وتخلُّقها، وتماسك أصلها القرآني، وتعبيرها الواضح عن التصوُّر الإسلامي، تبدَّلت صورة الموقف، وتغيَّرت طبيعة الرؤية تجاه هذا الشأن الحضاري الإنساني العام، وأصبح من الممكن الاقتراب من هذا الشأن، ودراسة نظريات العلاقة بين الحضارات من دون حرج، وبعيدًا عن الإحساس بالضعف أو الشعور بالنقص أو الفراغ، مع وجود فكرة أو أطروحة أو نظرية تنتسب شخصًا وتصوُّرًا إلى الأفق الفكري العربي والإسلامي.

نلمس مثل هذا الموقف والتعبير عنه في الرؤية العامة التي شرحتها مقدِّمة كتاب «التاريخ» للصف الحادي عشر في دولة الإمارات العربية، منتقدة النظرة الأحادية الضيِّقة للأمور، مبيِّنة أن تاريخ العالم ومعطياته المعاصرة يشكّل المحور الرئيس لكتاب التاريخ الذي يدور حول العلاقات بين الحضارات الإنسانية وقضاياه المعاصرة إما على المستوى العربي والإسلامي أو العالمي، معتبرة أن الإنسان المسلَّح بقيم وتعاليم الإسلام هي الدعامة الأساسية لاستخلافه من الله على الأرض.

ونلمس مثل هذا الموقف - أيضًا - في مقياس فلسفة الحضارة السالف الذكر، الذي أعدَّته الدكتورة هجيرة شبلي لمرحلة الليسانس، فعند الحديث عن نظرية تعارف الحضارات افتتحته متسائلة متَّجهة بخطابها إلى المجال الإسلامي قائلة: ما موقف العالم الإسلامي من قضية حوار الحضارات، وما استراتيجيته في مجابهة تحدِّيات هذه القضية؟ وهل توجد إمكانية لتحقيق التعارف الحضاري لتجاوز منطق الصدام؟

ثالثًا: ظهر من التوثيق السالف الذكر أن دولة الإمارات العربية عُدَّت من أكثر بلدان المشرق العربي التفاتًا إلى فكرة التعارف على مستوى التعليم، وعُدَّت الجزائر من أكثر بلدان المغرب العربي التفاتًا كذلك لهذه الفكرة على مستوى التعليم.

وتأكيدًا لذلك فقد حضرت فكرة التعارف في مرحلتين من مراحل التعليم في دولة الإمارات، هما: التعليم العام والتعليم العالي، وفي التعليم العالي وردت هذه الفكرة في أعلى مراحله وهي مرحلة الدكتوراه. في خطوة دالَّة على شدَّة الالتفات لهذه الفكرة وقوَّة التبصُّر بها، كما لو أنها جاءت وسدَّت فراغًا في موضوعها، وأكملت نقصًا، ولبَّت حاجة، وفتحت أفقًا، وكشفت بُعدًا، وقدَّمت خدمة.

ومن المرجَّح لدي أن التعرُّف إلى هذه الفكرة بدأ في جامعة الشارقة، وتحديدًا في قسم التاريخ والحضارة الإسلامية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية. ويُعَدُّ هذا القسم - بحسب تعريف الجامعة المدوَّن في صفحتها الإلكترونية - من الأقسام الرائدة في دولة الإمارات العربية، وقد تأسَّس مع تأسيس الجامعة سنة 1997م، وكان القسم الوحيد في دولة الإمارات الذي يمنح درجة الماجستير في التاريخ إلى جانب درجة البكالوريوس، ويُدرِّس باللغة العربية، كما أنه من أوائل الأقسام في الجامعة التي حصلت على الاعتماد الأكاديمي من وزارة التعليم العالي سنة 2002 - 2003م.

هذا الترجيح منشؤه يرجع إلى أمرين:

الأمر الأول: أن مساق الحضارة الإسلامية في جامعة الشارقة المدوَّن في عام 2003م، والذي يحمل رقم: «0203100»، ومُدرِّسه الدكتور محمد يوسف صدِّيق، كان من مراجعه مقالة «تعارف الحضارات» وهي أول مقالة عرَّفت بهذه الفكرة نشرتُها في صيف 1997م. وقد تكرَّرت الإشارة المرجعية لهذه المقالة أربع مرات تعلَّقت بخمس مفردات من مفردات المساق هي: مميِّزات الحضارة الإسلامية وخصائصها ومقوِّمتها، انتشار الحضارة الإسلامية، عالمية الحضارة الإسلامية، مقارنة الحضارة الإسلامية بالحضارات الأخرى، الحضارة الإسلامية المعاصرة والغرب.

الأمر الثاني: أن رئيس اللجنة والمراجع العلمي التي وضعت تصميم كتاب «التاريخ» للصف الحادي عشر في نسخته المحدَّثة والمطوَّرة والمضمَّنة نظرية تعارف الحضارات، كان من جامعة الشارقة شغل فيها منصب رئيس قسم التاريخ والحضارة الإسلامية.

أما الجزائر التي أدرجت فكرة التعارف في تخصصين على مستوى الماستر هما: فلسفة عربية وإسلامية، وفلسفة تطبيقية، وانتعشت في جامعاتها هذه الفكرة، مسجِّلة حضورًا متناميًا في المجال الأكاديمي، حدث ذلك نتيجة انفتاح الجامعات الجزائرية على الأفكار الجديدة، إلى جانب ما يتَّسم به الأكاديميون الجزائريون من حسِّ التواصل المعرفي، بالإضافة إلى الالتفات المبكِّر لفكرة التعارف عند الأكاديميين الجزائريين الذين كان لهم إسهاماتهم المميَّزة في دعم هذه الفكرة وتدعيمها.

[1]  وزارة التربية والتعليم بدولة الإمارات العربية المتحدة، كتاب التاريخ، الصف الحادي عشر، ج1,1430 هـ / 2009م، ص9.

[2]  سورة الحجرات، الآية: 13.

[3]  وزارة التربية والتعليم بدولة الإمارات العربية المتحدة، كتاب التاريخ، ج1، مصدر سابق، ص32.

[4]  وزارة التربية والتعليم بدولة الإمارات العربية المتحدة، المصدر نفسه، ص54.

[5]  هجيرة شبلي، فلسفة الحضارة، مقرر دراسي مخطوط، قسم الفلسفة، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة محمد لمين دباغين، سطيف الثانية، السنة الجامعية 2018 - 2019م، ص117.

[6]  انظر: البرنامج المفصل لكل مادة في مرحلة الماستر تخصص فلسفة تطبيقية، جامعة باجي مختار، كلية الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية، قسم الفلسفة، ص31.

[7]  البرنامج المفصَّل لكل مادة في مرحلة الماستر تخصص فلسفة تطبيقية، المصدر نفسه، ص32.

[8]  أكاديمية الحوار للتدريب، الحوار الحضاري - المادة العلمية، الرياض، 2019م، ص67.

[9]  أكاديمية الحوار للتدريب، المصدر نفسه، ص56.
كاتب وباحث سعودي «القطيف»