آخر تحديث: 27 / 4 / 2024م - 2:29 م

من الداخل إلى الخارج: رؤية سعودية معاصرة

السيد زيد بن علي الفضيل * صحيفة مكة

أنهت رابطة العالم الإسلامي برعاية كريمة من قبل خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز يحفظه الله مؤتمرها الدولي الذي وسمته بعنوان: ”بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية“، وذلك بمشاركة واسعة من ممثلي المذاهب والطوائف الإسلامية في العالم الإسلامي، وأطلقت في نهاية أعمال المؤتمر ”وثيقة بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية“، التي من شأنها أن ترسم الطريق لبناء جسور من الإِخاء والتعاون بين المذاهب المختلفة.

يأتي هذا المؤتمر وغيره ليؤكد سمات الاعتدال السعودي الذي حمل لواءه سمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان يحفظه الله، والذي عمل برعاية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز يحفظه الله، على تحرير المجتمع من تطرف ما عرف اصطلاحا باسم ”الصحوة“، أولئك الذين صبغوا السعودية بصبغة التشدد والأحادية، فجاء الأمير القائد ليحرر المجتمع من قبضتهم، ويزيل عنه كل سمات التطرف والإقصاء، من خلال تصحيح المفاهيم الفقهية والدينية، والإيمان بالتنوع المذهبي الأصيل القائم في المملكة منذ مئات السنين.

جاء ذلك جليا في حوار سموه مع مجلة ”أتلانتيك“، حيث أوضح أهمية الوصول إلى الإسلام النقي المستند على القطعي من كتاب الله، والصحيح الثابت المتواتر من حديث رسول الله، كما أبان عن قيمة السعودية وثراءها المعرفي والفقهي الناتج عن تنوع أطيافها مذهبيا، حيث قال في الحوار المشار إليه بأن:

”السعودية لديها المذهب السنّي والشيعي، وفي المذهب السنّي توجد أربعة مذاهب، ولدى الشيعة مذاهب مختلفة كذلك، ويتم تمثيلها في عدد من الهيئات الشرعية، ولا يمكن لشخص الترويج لإحدى هذه المذاهب ليجعلها الطريقة الوحيدة لرؤية الدين في السعودية“ وأضاف ”ربما حدث ذلك أحيانًا سابقًا.. لكن اليوم نحن نضعها على المسار الصحيح“.

إذن نحن أمام عهد جديد، ورؤية سعودية معاصرة أرادت إعادة المجتمع إلى سابق عهده من التسامح والأفق الديني الواسع، بعيدا عن تأثيرات المتطرفين الذين كان لاجتهاداتهم الدينية المتشددة أثرها السلبي على ثنايا المجتمع، بل وعلى سماته الحيوية، والأسوأ، أن صورة مشوهة عن مجتمعنا قد تشكلت في ذهن ووعي الشعوب الإسلامية والعالمية.

في الوقت الذي لسنا جميعا على ذات المنوال من التشدد، بل وتحظى البلاد السعودية بحالة فريدة من التنوع المذهبي كما أشار سمو ولي العهد، وأكدته وثيقة مكة المكرمة التي نصت على منظومة شاملة من الحقوق منها: الحق في التنوع الديني والثقافي في المجتمعات الإنسانية، والحق في العيش المشترك والاندماج الوطني الايجابي بين المكونات الدينية والإثنية والثقافية، وغيرها.

الأمر الذي يجب أن نسلط الضوء عليه مجددا وليس إغفاله أو تحاشيه، ولهذا فعتبي كبير على رابطة العالم الإسلامي التي أقامت مؤتمرا دوليا جمعت له كل العلماء من مختلف الأطياف والمذاهب من خارج المملكة، ونسيت دعوة كثير من علماء المذاهب المتنوعة في المملكة العربية السعودية، وفي مكة المكرمة على أقل تقدير، ليشاركوا حضورا وكمتحدثين رئيسيين.

في هذا السياق أشير إلى أحد أبرز مجالس العلم الأهلي بمكة المكرمة، والذي تميزت حلقاتها العلمية بثرائها العلمي وتنوعها الفقهي، وأقصد به حلقة السادة آل المالكي التي تأسست منذ أكثر من مئة عام، ويقوم عليها حاليا الدكتور الفقيه السيد أحمد بن محمد علوي مالكي خلفا لوالده ولجده وجد جده؛ وهو مجلس علمي عريق في منشأه، ويعقد حلقات علم متنوعة في الفقه المالكي والشافعي والحنفي والحنبلي، ويتبنى قراءة وشرح كتب الحديث المعتمدة، وكتب السيرة النبوية والفضائل جملة، إلى غير ذلك من علوم القرآن والتفسير وما يتعلق بهما؛ كما أن القائمين عليه قد حظوا برعاية ولاة الأمر واهتمامهم، بل وشهادتهم لهم بالخير والمحبة والصدق لدينهم ووطنهم وقادته الكرام.

ولذلك فكم كان أملي كبيرا بأن يقوم معالي أمين عام الرابطة بإبراز هذا الدور الأهلي وتقديمه لعلماء العالم الإسلامي كنموذج عملي للتنوع والقبول بالآخر، ليتسنى لنا بعد ذلك تجسيد دعوتنا التسامحية التي تنطلق من الداخل إلى الخارج، اتساقا مع دعوة ولي العهد يحفظه الله.

أختم مذكرا بأن الحرم المكي الشريف قد جمع منذ بداية العهد السعودي وحتى عقد السبعينات من القرن الماضي، حلق علم ودروس في كل المذاهب، فكان جامعا وجامعة وفق قول الشيخ الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان يرحمه الله، حيث تم تدريس الفقه المالكي في حصوة باب أجياد، والفقه الحنفي في حصوة باب إبراهيم، والفقه الشافعي في حصوة باب علي، والفقه الحنبلي في حصوة باب العمرة.

كما شملت الدراسة عددا من جوانب المعرفة العلمية كالفلك والرياضيات والمواقيت في حصوة باب الداوودية وفي رواق باب زيادة، ودراسة التاريخ بين باب الباسطية وباب الزيادة، ودراسة الأدب والإنشاء في رواق باب الوداع، إلى غير ذلك من العلوم والمعارف.

إنه التاريخ المشرق الذي يجب إعادته وإبرازه للعالم استجابة لدعوة وتوجه سمو ولي العهد، فهل إلى ذلك سبيل؟

كاتب سعودي وباحث في الشؤون التاريخية.